عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحَبَلة” أخرجه البخاري 2146 ومسلم 1514.
شرح غريب الحديث
(حبَلُ الحَبلةِ): بفتح الحاء والباء في الحَبَل والحَبَلة، وهو مصدر حَبَلت تَحْبِل حَبَلاً، والحَبَلَة جمع حابل مثل: ظلمة وظالم، وكتبة وكاتب2.
وحَبَلٌ: أي حَمْلُ والحَبَلة: أي الحوامل فقوله: (نهى عن بيع حبَلِ الحَبلةِ) أي: نهى عن بيع حَمْل الحوامل3.
فقه الحديث:
قال النووي رحمه الله:
واختلف العلماء في المراد بالنهي عن بيع حبَلِ الحَبلةِ.
فقال جماعة: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها (على تقدير كونه أنثى)… وبه قال مالك والشافعي.
وقال آخرون: هو بيع ولد الناقة الحامل (…) وهذا تفسير أبي عبيدة مَعْمر بن المثنى، وصاحبه أبي عبيد القاسم بن سلام، وآخرين من أهل اللغة، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه4، وهذا تفسير يتفق مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملاقيح والمضامين5، والملاقيح بيع ما في بطون الحوامل من الأجِنَّة، والمضامين بيع ما في أصلاب الفحول من الماء، قال النووي: هكذا فسره أصحابنا وجماهير العلماء، وأهل اللغة وممن قاله من أهل اللغة أبو عبيدة وأبو عبيد، والأزهري، والهروي، والجوهري، وخلائق لا يحْصَوْن6.
دليل أصحاب القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بما فسر به عبد الله بن عمر الحديث، وقالوا تفسير الراوي مقدم، لأنه أعرف بالحديث من غيره7.
ففي الصحيحين عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبَلِ الحَبلةِ قال ابن عمر8: وكان بيعاً يتَبايَعُه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع (أي يشتري) الجزور (وهو البعير ذكرا كان أو أنثى) إلى أن تُنتَج (بضم أوله وفتح ثالثه، وهو حرف ناذر لم يُسمع إلا كذلك، ومعناه تلد) الناقة ثم تُنتَج التي في بطنها.
والمعنى أن أهل الجاهلية كان أحدهم يبيع الجزور بثمن مؤجل يحل إذا حملت الناقة، ثم وضعت ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تضع، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
دليل أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب هذا القول بأن هذا التفسير هو الذي تقتضيه اللغة، وأنه موافق لكلام أهلها.
وقد ذكر الحافظ في الفتح (4/452) أن أحمد روى عن ابن عمر ما يوافق هذا التفسير.
حكم هذا النوع من البيع:
قال النووي رحمه الله: “وهذا البيع باطل على التفسيرين9
وقال الترمذي: “والعمل على هذا عند أهل العلم، وحبَل الحبَلة نِتَاج النِّتاج وهو بيع مفسوخ عند أهل العلم، وهو من بيوع الغرر10.
العلة في تحريم هذا البيع:
أما على التفسير الأول: فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول، فإنه إذا قال بعتك هذا الشيء بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ثم تلد التي وُلِدَت، فقد أجل الثمن إلى مدة مجهولة، فإنه لا يدري متى تلد الناقة، ومتى تلد التي في بطنها، ولا يدري أتعيش حتى تلد أو لا تعيش.. إلى غير ذلك.
وأما على التفسير الثاني: وهو أن يبيعه ما تحمل به ناقته فالعلة أن المبيع:
1: معدوم لا يدرى أيحصل أو لا يحصل.
2: مجهول: لا يدري أيكون ذكرا أو أنثى، واحدا أو متعددا، حيا أو ميتا، سليما أو معيبا، إلى غير ذلك من الاحتمالات.
3: غير مملوك للبائع.
4: غير مقدور على تسليمه11.
فهذه علل تكفي الواحدة منها في إبطال البيع فكيف إذا اجتمعت؟!
ومن العلل: أن هذا البيع داخل في بيوع الغرر، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس12.
من فوائد الحديث:
أ ـ يستفاد من الحديث النهي عن بيع كل ذي جهالة، سواء كان في عين المَبيع، أم في ثمنه، أم في الأجل13.
ب ـ ومن فوائده أنه إذا وُجدت معاملة في الجاهلية ولم يُنْكرها الشرع فهي جائزة، لأن سكوت الشرع عنها بدون إنكار يدل على اقرارها14. بيان ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن أنواع من البيوع الفاسدة كحبل الحبلة- موضوع المقال – والملامسة والمنابذة وأشباه ذلك، وسكوته عن أنواع أخرى كالمضاربة، وهي مما كان في الجاهلية وأقر الإسلام كما ذكره الصنعاني رحمه الله تعالى وصورتها أن يدفع رجل لآخر مالا ليتجر به وما كان من الربح فهو بينهما بحسب ما اتفقا عليه.
ج ـ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: النهي عن بيع حبَل الحَبَلة… هل يقاس على ذلك بيع الحامل بحملها؟
الجواب: لا، لأن الحمل حينئذ تَبَعٌ، فإذا كان تَبَعًا فإنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا ونظيره، لو باع اللبن في الضرع لم يصح ولو باع شاة فيها لبن صح15.
قال الناظم:
كحامل إن بيع حملها امتنع ولو تباع حاملا لم يمتنع
والله الموفق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1: سبق من كلام شيخ الإسلام: أن بيع الغرر كل بيع مجهول العاقبة.
2: شرح صحيح مسلم للنووي 10/153.
3: انظر شرح بلوغ المرام لابن عثيمين 3/534.
4: شرح صحيح مسلم للنووي 10/153.
5: صحيح الجامع 6937.
6: المجموع شرح المهذب 9/395.
7: قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم 10/153: (مذهب الشافعي ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر).
8: قيل: إن هذا التفسير مدرج من كلام نافع، ورجح الحافظ ابن حجر أنه من ابن عمر لورود ذلك صريحا في بعض الروايات. قال: ولهذا جزم ابن عبد البر أنه من تفسير ابن عمر (انظر الفتح 4/451).
9: شرح مسلم للنووي 10/153.
10: سنن الترمذي 3/531
11: أنظر شرح صحيح مسلم للنووي 10/153
12: انظر معالم السنن للخطابي 3/672.
13-14-15: انظر هذه الفوائد في شرح بلوغ المرام لابن عثيمين رحمه الله تعالى 3/536.