دور القرآن بين إفساد البركان وإصلاح الزلزال يوسف بلقزقوزي

إن الأمة الإسلامية لتعلم حق العلم أنها مبتلاة في عداد مصائبها بفئات من أذكيائها، يناقضونها الرأي في الدين والأخلاق واللغة، وهم في ذلك قوم مرضى العقول أصيبوا بنحو ما يسمى بجنون الفكرة الثابتة، فلا تردهم قوة من القوى عن آرائهم وأوهامهم في الإصلاح ما داموا آمنين مرزوقين، فبعض هؤلاء يريد جعل اللغة عامية لتنتهي الأمة يوما إلى نسيان قرآنها وإهماله، وبعضهم يتعجل هذه العاقبة فيريد الإنسلاخ من هذا الدين ضربة واحدة، ظنا منه أن ما حل بالمسلمين اليوم من تأخر وتخلف على المستوى العلمي والتقني والحضاري إنما هو بسبب تمسك المسلمين بدينهم واحتكامهم إلى شرع ربهم، وأنه لن يتأتى لهم التقدم إلا عن طريق الإنسلاخ وارتسام خطى الغرب الخارج على سلطة الكنيسة، هذه الأخيرة التي جعلت العقل الغربي أسير الأساطير التاريخية والخرافات الدينية.

وبعضهم أخذ على عاتقه إعادة قراءة وتفسير النصوص الشرعية من القرآن والسنة على غرار ما يمليه عليه عقله وهواه، دون تقيد بالضوابط والقيود العلمية التي اجتمعت عليها الأمة وعلماؤها.
وبعضهم فضل مفتاح الزيغ والزلل حيث أعرض عن طريق العلم الشرعي وفرق بين الشريعة والحقيقة، واختار الحقيقة على الشريعة، فلا عجب أن يأتي الشيطان هؤلاء من جهة الجهل ويصبح العلم عندهم سبة ومنقصة، فإنهم حين جهلوا السنن ابتدعوا، ثم تولد عن بدعهم بدع أكبر ما تزال تكثر فيهم من طبقة إلى التي تليها، ومصادرهم في ذلك الذوق والاستحسان والهوى.. التي أحلوها محل الكتاب والسنة.
مع العلم أن أئمتنا وعلمائنا الأجلاء من السلف الصالح إلى يومنا هذا قاموا بما يقضي به واجبهم نحو الدين الذي هم ممثلوه ودعاته، حيث عقدوا عليه الولاء والبراء، والمولاة والمعاداة، والتزموا بالسنن أمام أهل البدع، وردوا على المنحرفين وأصحاب الأهواء بمنهج متميز، وناقشوهم بأدلة نقلية وعقلية على الكتاب والسنة، فحَمَد الناس لهم هذه الهمة العالية والعناية الجليلة التي يستوجبون بها عند الله عظيم المثوبة وجزيل الأجر (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
إن جل هذه الفئات التي ذكرناها تتمسك بخيوط عنكبوتية واهية تصلها بمنظمات غربية لا ينفك دعاة الحداثة يزعمون أنها مبنية على فكر تقدمي استطاع أن يعلي من شأن العقل، هذه المنظمات التي تدعي الإصلاح والتي تطل علينا من حين لآخر في ثوب خادع يستخفون به قليلي المعرفة لترويج هذه المصطلحات ومدلولاتها في مجتمع المسلمين باسم منظمات حقوق الإنسان، حقوق المرأة.. رافعة شعارا واحدا هو شعار مبدأ الديمقراطية، هذا الأخير الذي إن أعطى للمسلم -قانونيا- حرية الاعتقاد فإنه يعطيه في نفس الوقت الحرية في أن يرتد عن دينه، كما يعطي غيره حرية الكفر والالحاد، ويجعل كل الرذائل والموبقات الخلقية حقوقا وحريات، هذا المبدأ الذي هو في حقيقة الأمر قاطع طريق على نظام الحكم الإسلامي حيث الكلمة العليا فيه لله العلي الكبير الذي يحيي ويميت، ويكون التشريع والتحليل والأمر والنهي لله الذي له ملك السماوات والأرض وليس لمخلوق، -سواء كان فردا أو جماعة أو أمة أو شعبا- أدنى نوع من أنواع المشاركة لله الكبير المتعال في أي شيء من ذلك.
ونتيجة تحاقن أفكار هذه الفئات صوبت الأسهم تجاه دور القرآن، رغم كونها تعمل في إطار قانون الحريات العامة، هذه الدور التي تؤدي خدمة تعليم القرآن الكريم لشرائح المجتمع المختلفة، هذه الدور التي تربط الناس بمنهجهم الأصيل المتجذر في التدين المغربي وتاريخ علماء ملوك العلويين رحمهم الله، هذه الدور التي تربط الناس بالثوابت الدينية المغربية التي تتخلص في لزوم منهاج أهل السنة والجماعة المتسم بالوسطية والاعتدال، فلا غرابة إذا في إغلاق هذه الدور ولا غرابة من أن تكمم أفواه العلماء والدعاة في نقلهم لتفسير آية من كتاب الله تتعلق بعقد القران على الصغيرة، وإن ساندهم في ذلك علماء أجلاء داخل المملكة وخارجها، فما بالك لو تلفظوا بكلمة (جهاد) ضد العدوان الصهيوني الذي يشن هجماته الشرسة على نساء وصبيان وشيوخ قطاع غزة.

إن قرار إغلاق دور القرآن مما تضيق به النفس لما فيه من جرأة على الله، حتى لا يطيقه إلا علماني جاحد أو متصوف حاقد، ومثل هذين الأخيرين شبيه بما ذكر عن كليلة ودمنة في حديثهما.
قال كليلة: قالت العلماء: إن الرأي لا يكون رأيا حتى يمكن له في الطبع أشد التمكين، وإن المصلح لن يقبل منه وفي طبعه ما عسى أن يتحول به عهده أو ينتكث، وما مثله إلا مثل الزلزال الذي أراد أن يتعاطى الهندسة، قال دمنة: وكيف ذلك؟ قال: زعموا أن زلزالا كان صديقا لأحد البراكين، فقال له يوما: قد كثر أذاك وإفسادك أيها البركان، فأنت غيظ للناس وهلاك ولعنة، وما تنفك بين حريق وتدمير، وإني لأرى لك حالا ما أحسبك فيها إلا قد بعثت من جهنم إلى هذه المدينة، وما أظنك تفلح أبدا في تغير طبعك ومذهبك، حتى لو كنت بحرا لانقلبت على الناس طوفانا، تهدم بالماء كما أنك تهدم بالنار، فقد سئمت صحبتك وأنا ذاهب عنك ألتمس عملا أنفع به هؤلاء المساكين، لعلي أرد عليهم بعض ما تأخذ منهم.
قال البركان: أيها الزلزال لا تغتر بالفلسفة والخيال، فإن الكلام أيسر ما أنت آخذه، وأهون ما أنت معطيه، وإنه لن يكون قولك قولا مالم يكن عليه من طبعك دليل وشاهد، وإلا فإنما هو كلام بعضه كبعضه، وحقه كباطله وشريفه كخسيسه، ولو شئت أن أسمي هذا الحميم الذي أصهره في جوفي من الصخور والمعادن خمرا سائغة للشاربين لفعلت وقلت، ثم لوصفتها وزينتها بالشعر والحكمة وكابرت فيها وجادلت عليها، ولكن ذلك كله هراء إذا أنا لم أجد من يقول اسقني.
قال الزلزال: دعني منك فوالله لأكونن غير ما في نفسك، وأنت تعلم حدة طبعي وما قد خصصت به من تمام القوة والذكاء فأنا غاد فمتعلم الهندسة، وإنها لمن أوكد الأسباب فيما أريده من الإصلاح.
قال كليلة: وضرب الدهر ضربة فإذا هو مهندس قد برع وفاق وأحكم وأتقن، ثم جعل يترصد اليوم الذي يجيش فيه البركان ليعيد هيكلة ما أفسده صاحبه، ويسد معاقر أهل المدينة بعلمه وفضله.
فلما كان اليوم الموعود لطف الله من لطفه ليخرج للناس الموعظة من هذا الحمق، فهاج البركان غير طويل وشعََّتَ من هاهنا وهاهنا، ثم كظم على ما في قلبه فلم يدمّر إلا ربع المدينة، وبقي سائرها قائما على نعمة وعلى سلامة وفي أمن ورضا (فاستنكرت الأمة هذا الفعل الشنيع وعزمت على حفر خندق يحول بينها وبين البركان، فأبى البركان إلا أن يترك حرا مستقلا يجوب الطرق العامرة والدور القائمة، وذهب يدافع عن نفسه، فكان فيما قاله: ما أنصفتم والله إذ تقولون إني أهدم عليكم الدور، ثم تنسون أني أوسع لكم الشارع..) فقال المهندس لنفسه: سأعيد هيكلة ما أفسد صاحبي وذهب ليعمر ما خرب صاحبه، فلما جاء تحت قواعد المدينة هز أنقاض البيوت الخربة ليعيدها بزعمه قائمة فما زاد على أن هدم كل البيوت القائمة فأرجعها خربة، وأتلف البركان المفسد ربع المدينة وهدم المهندس المصلح.. ثلاثة أرباعها.
فانظر يا دمنة: إنه الجوهر والأصل لا الظاهر والحلية، وإنه العمل لا القول، وإنه الطبع لا الرأي وإن الفاسد إذا كان معلما فوجد طلابا يهديهم كان كالزلزال إذا صار مهندسا فوجد بيوتا يصلحها!
فهذا شبيه بصنيع من رأوا أن إغلاق أكثر من ستين دارا للقرآن وتشريد الآلاف من حملته وطلبته فيه تسكين لأرواح المؤمنين وحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة، وإصلاح للحقل الديني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *