5- من كمال علم الله تعالى اختصاصه بعلم الغيب:
وقد دلّ على ذلك آيات وأحاديث كثيرة، نذكر منها على سبيل الاستشهاد لا الحصر:
قوله سبحانه: “قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه” (النمل:65)، وقوله تعالى: “وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ” (الأنعام:59)، وقوله جل جلاله: “إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ” (لقمان:34).. “فهذه الغيوب ونحوها اختص الله بعلمها، فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل..” .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله” .
واختصاص الله تعالى بعلم الغيب يستلزم عدة أمور، منها:
أ- إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة:
إذ كيف يعبد من ليس له من علم الغيب نصيب، فالمستحق للعبادة هو من علم ماضينا وحالنا ومآلنا وسرنا وجهرنا وعلم أرزاقنا وكل ما سيصيبنا من خير أو شر.. فهذا هو الذي تصرف له العبادة دون غيره سبحانه، كما قال السعدي رحمه الله في تفسيره: “وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا، فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له” ، وهذا خلاف ما يقع فيه الكثيرون.
والأمر لا يقتصر على صرف الدعاء أو الخوف أو الرجاء وغير ذلك لغير الله، بل هو أعم من ذلك فيدخل فيه كل اتباع أو طاعة للطاغوت، وهو كما عرفه ابن القيم: “كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع”، ولذا سمى الله تعالى طاعة الجن في الإشراك به سبحانه عبادة، كما قال جل شأنه: “وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ” (سبأ:40.41).
فكان هؤلاء الجن يأمرونهم بعبادة الملائكة أو عبادة غيرهم ويزينون لهم ذلك فيطيعونهم، وطاعتهم هي عبادتهم لأن العبادة الطاعة، كما قال تعالى مخاطبا لكل من اتخذ معه آلهة: “أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ”، وهذا عين الخسران عياذا بالله، أن تطاع الشياطين والجن فيما يأمرونهم به ويزينونه لهم من أنواع الشرك، مع أن الله عز وجل حذر من ذلك وبين ضلال فاعله من عدة وجوه، منها إخباره سبحانه أن هؤلاء الجن ليس لهم من علم الغيب نصيب، قال تعالى: “وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير”، إلى قوله: “فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِين” (سبأ:12-14).