بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ أنزله الله عز وجل.انعه على صطفاه من بين عباده واختاره مهبطا لوحيه وموضعا لرسالته (والله أعلم حيث يجعل رسالته)، بعد أن صنعه على عينه وغسل قلبه بما لا يجعل للوسواس عليه سبيلا ولا لنزعات الشياطين وهواجسها منقذا وطريقا فكان صلوات الله عليه وسلامه مهيأ لقبوله على أتم وجه وأكمله.
و لهذا كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حينما يهبط عليه الوحي يحرك لسانه به متابعة لما يلقى عليه حرصا منه على سرعة تلقفه ومبالغة في حفظه كيلا يفوته منه حرف واحد. فأنزل الله ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه﴾.
وإن قرآنا أنزله الله تعالى وكتب على نفسه جمعه وحفظه وأن يعلم رسوله تلاوته وتجويده لهو في حصن حصين في أن تمتد إليه في الزمان بعبث وإن طال. ولا سبيل لأن يلحقه تغيير وتبديل وإن حاول أعداؤه النيل منه جهد المستطاع. فهو مصدر العلوم والمعرفة وينبوع الحكمة والموعظة الحسنة يهدي للتي هي أقوم ويبصر العباد بما هو أجدى عليهم وأنفع وهو حبل الله المتين وسبيله المستقيم.
وإن قرآنا هذا بعض صفاته لجدير أن يهيئ الله إليه رجالا صفت نفوسهم وطهرت سرائرهم واشرب حبه في قلوبهم أن ينقشوه في صدورهم بمداد من نور اختصهم الله به. ويحفظوه بين حنايا ضلوعهم ويتعهدوه بالترداد والتكرار آناء الليل وأطراف النهار سفا له من التفلث وحرصا على عدم نسيانه ونيلا للدرجات العلى التي وعد الله بها المتقون الذين يتلونه ويتخلقون بأخلاقه. وأن يكتبوه على كل ما تيسر لديهم إذ ذاك من الرقاع وجريد النخل والحجارة، فقد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يختلفون إليه ويجلسون أمامه يسمعون منه ويعون ويكتبون كل ما يوحى به إليه وكانوا يتفانون في ملازمتهم للرسول صلوات الله عليه وسلامه. لذلك كان بعضهم يحفظ القرآن كله وبعضهم يحفظ النصف أو أدنى منه كما أن بعضهم أخذ عنه حرفا واحدا وبعضهم أخذ حرفين وبعضهم أخذ أكثر من ذلك. ولذلك روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وإن ذلك لرحمة من الله بعباده وتيسير عليهم لاختلافهم في اللغات واللهجات. ولما استحر القتل بالقراء في حادثة اليمامة خافوا أن يذهب كثير من القرآن يموت أهله. فأمر أبو بكر رضي الله عنه وهو الخليفة الأول بجمعه وكان ذلك بعد أن شرح الله صدره بما أشار به عمر رضي الله عنه بجمعه. وقد انتقلت تلك الصحف إلى الخليفة الثاني (عمر) رضي الله عنه إلى أن جاء عهد الخليفة الثالث (عثمان) رضي الله عنه. روى أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغزو أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى السيدة (حفصة) رضي الله عنها واستحضر من عندها الصحف وأمر بمراجعتها وتحقيقها.
وقال إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم (أنظر الحديث بأكمله في البخاري 4987). وأمرهم بالرجوع إلى ما في صدور الثقات كما أمر بتجريده من الشكل والنقط ليعتمل ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط، وكان من جملة الأحرف التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أنزل القرآن على سبعة أحرف» فكتب المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في الفرصة الأخيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به غير واحد من أئمة السلف ثم أرسلت إلى الآفاق فقرأ كل أهل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تجرد للأخذ عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها وأتعبوا نهارهم في نقلها حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء وأنجما للاهتداء، وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم. ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم. وكان المعمول فيها عليهم –ومن هنا نشأ علم القراءات – واختلافها في الواقع في حدود السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن وكل من عند الله لا من عند الرسول ولا من عند أحد من القراء، ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية، ومنهم المحصل لوصف واحد. ومنهم المحصل لأكثر من واحد فكثر لذلك بينهم الاختلاف، وقل بينهم الائتلاف، فقام عند ذلك جهابذة علماء الأمة وصناديد الأئمة فبالغوا في الاجتهاد، وبينوا الحق المراد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات، وبينوا الصحيح والشاذ والكثير والفاذ بأصول أصلوها وأركان فضلوها.
بتصرف يسير من تقريب النشر لابن الجزري (ص20)