ثالثا: نقد موقف ابن رشد من خلق العالم وأزليته:
وأما آخرهم فهو الباحث محمود فهمي زيدان، إنه يرى أن نُصوص ابن رشد في قدم العالم أو حدوثه مُحيرة، لأنه يمكن تفسير موقفه بأنه نصير القِدم بأدلة مُشتقة من أراء أرسطو، ويقول في (نفس الوقت أن الله علة وجود العالم، وصانعه وخالقه ومُبدعه، بل يستدل على القِدم من بعض الآيات القرآنية ليقول ليس بالقرآن نص على أن العالم خُلق من عدم محض). ولكن يمكن تفسير نصوصه على أنه مُتردد بين القدم والحدوث، علما بأن الانطلاق من التسليم بما (ورد في الكتب المقدسة من أن الله خالق الكون، هو أساس تصوّر حدوث العالم، فإذا لم نبدأ هذه البداية فحجة القِدم أقوى من حجة الحدوث). وأما الفلاسفة الذين (لم تنزل في أرضهم أديان سماوية، أو لم يُؤمنوا بها، فتصوّروا القِدم هو الراسخ، ولا ينشأ الحدوث على الإطلاق. وأساس القول بالقدم عند أنصار القدم هو اعتقادهم بالمبدأ: لا شيء يُوجد من لا شيء. وأن هذا الشيء لن يكون الله، لأنهم لم يتصوّروا خلق إله لا مادي لعالم مادي من ذاته).
وأقول: نعم إن نصوص ابن رشد ظاهرها مُتناقض في موقفه من مسألة حدوث العالم أو أزليته، لكن حقيقة أمره أنه لم يكن متناقضا ولا مترددا، لأنه كان يتعمد الازدواجية في الخطاب في المسائل الفلسفية الأرسطية المُخالفة للشرع، فكان ينطلق في نظرته إليها من خلفيته الأرسطية، فما وافقها من الشرع قبله، وما خالفها منه أوّله، أو أغفله وأهمله. ففي كتبه للعامة يُظهر موقفه من الشرع وتأويله له، وقد يُظهر أيضا موقفه الفلسفي بطريقة أو أخرى. لكنه في كتبه الفلسفية يُصرّح بموقفه الفلسفي الأرسطي المُخالف للشرع صراحة من دون لف ولا دوران، وبلا تأويل للشرع، بل ومن دون ذكر له أصلا، وكأن الأمر عادي للغاية، وقد مارس ذلك في كتابيه تلخيص ما بعد الطبيعة، وتلخيص السماء والعالم، وهذا أمر سبق إثباته وتوثيقه، كموقفه من الصفات وأزلية العالم.
وأما قوله بأن حُجج قِدم العالم أقوى من حجج حدوثه، فهذا لا نوافقه عليه، والعكس هو الصحيح بفارق كبير بين الحجتين، والحَكَمُ هنا ليس ما قاله فلاسفة اليونان ولا غيرهم، وإنما العقل الفطري الطبيعي البريء من الانحرافات الفكرية، وذلك أن القول بقِدم العالم وأزليته يقوم أساسا على ظنون وتوهمات غيبية، هي رجم بالغيب، وقول بلا علم؛ قامت على مقدمات ظنية لمحاولة معرفة أصل العالم أهو مخلوق أم أزلي؟ والقائلون بالقدم هم الدهريون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) سورة الجاثية: 24 فالله تعالى حكى زعمهم وانتقدهم في مستندهم العقلي بأنه لا يقوم على العلم، وإنما أقاموه على الظن، والظن لا يُغني من الحق شيئا.
وأما القول بحدوث العالم فهو خلاف ذلك، فحجته أقوى بكثير من حجة القائلين بأزليته. وحججه تستند إلى الملموس والاستنتاج العلمي الصحيح الذي لا تتخلله ظنون وتوهمات، والدليل على ذلك الشواهد الآتية: أولها إن الإنسان إذا نظر في ذاته نظرة علمية دقيقة فاحصة تبيّن له أنه مخلوق ضعيف، له بداية وله نهاية. وهذا يصدق على كل الكائنات الحية التي نراها على الأرض. وأما الزعم – بما قاله المشاؤون – بأزلية الأنواع فهو مجرد ظن لا دليل على صحته، عكس مسألة خلق الإنسان كفرد فهي مسألة محسومة لا شك فيها.
والشاهد الثاني مفاده أن مظاهر الطبيعة تشهد على أنها مُسخرة لخدمة الإنسان، وقائمة على قانون العلة، الذي يقوم الافتقار. فلكل معلول علة، ولكل علة معلول، وهكذا دواليك. مما يعني أن العالم بأسره مُفتقر إلى خالق خلقه.
والشاهد الثالث مفاده أنه بما أن العالم السفلي مشهود بأن كائناته مخلوقة زائلة لها بداية ونهاية، فلماذا لا يكون كل العالم على هذه الحالة؟. بمعنى أنه يكون مخلوقا زائلا مُفتقرا إلى غيره، خاصة ونحن نرى العالم مُسخّر يسير وفق نظام مُحكم. فإذا كان هذا الإنسان العاقل المريد مخلوقا، فمن باب أولى أن تكون الجمادات والمخلوقات الأخرى هي أيضا مخلوقة.
والدليل القاطع على صحة ما قلناه أمران: أولهما أن الشرع الحكيم أكد على ما قلناه في آيات كثيرة جدا، تكلّمت عن الفطرة، وتسخير العالم للإنسان. وثانيهما أن العلم الحديث هو أيضا أثبت بأدلة كثيرة على أن العالم حادث مخلوق منذ أكثر من 13 مليار سنة، وهو سائر إلى الزوال.
لكن القائلين بقدم العالم ليس لهم إلا الشبهات المخالفة للشرع والعلم والعقل الفطري الصريح. وموقفهم ما هو إلا رجم بالغيب، وهروب من الواقع المحسوس، وتعلق بالظنون والأوهام، ومن هذا حالهم لا يصح أن يُقال: إن حجتهم في القدم أقوى من حجة القائلين بالحدوث.
وأما ذكره لمبدأ: لا شيء يُوجد من لا شيء، فقد سبق أن تطرّقنا إليه عندما تناولنا موضوع الخلق من عدم، وبيّنا تهافته شرعا وعقلا وعلما، وأنه لا يقوم على أساس علمي صحيح، وإنما يقوم على ظنون وشبهات وتخمينات لا تغني من الحق شيئا.