الشيخ الطنطاوي معلما (ج.3) ذة. لطيفة أسير

ولعلّ من أبرز مواطن الخلل -بقطاع التعليم- كما يراها الشيخ غياب استراتيجية واضحة للإصلاح، وانعدام الجرأة في اقتحام بوابة الإصلاح بما تستلزمه من صدق وإخلاص وصرامة، وقد ذكر الطنطاوي أن من أسباب فساد الأخلاق في التعليم: استيراد مناهج تربوية غربية عن بيئتنا وثقافتنا وقيمنا، من ذلك إسناد مهمة تدريس الصبيان للمعلمات وتدريس الفتيات للمعلمين جريا على ما كان عليه الاستعمار الفرنسي فيقول: (نحن لا نقول إن تعليم المرأة أولادا صغارا أعمارهم دون العاشرة محرّم في ذاته. لا، ليس محرما في ذاته، ولكنه ذريعة إلى الحرام وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام) ج5ص352. ويضيف: (من تشرف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها، يظهر في عاطفته وفي سلوكه وفي أدبه إذا كان أديبا).
كما عاتب إسناد مهمة تدريس الفتيات للرجال بدعوى سدّ الخصاص، في ظل انعدام الخلق (منهم من هو فاسق يخفي فسوقه ، ومنهم من يجاهر به ويُعلنه ويجد من الناس من يعجب بهذه المجاهرة) -ذكريات 5/352-.
ومن مكامن الخلل كذلك طول سنوات التمدرس والحرص على حشو ذهن التلميذ بما لا ينفعه (إننا نحبس التلاميذ ست سنين للدراسة الثانوية، ونحشو رؤوسهم بمعلومات أكثرها لا ينفع في الحياة، وماذا لعمري استفدت أنا من دراسة المثلثات والهندسة النظرية وحفظ معادلات الكيمياء وقوانين الفيزياء في القضاء أو في تدريس الأدب أو في فن الكتابة، وتلك هي أعمالي في حياتي؟) -في سبيل الإصلاح ص154-.
لهذا اقترح في مقالته (أسلوب جديد في التعليم) في كتابه في سبيل الاصلاح، وجهة نظر جديدة للتعليم فقال: (أنا أرى أن نجعل مدة الدراسة الابتدائية الثانوية معا سبع سنين على الأكثر يتمكن فيها الطالب من العربية بالمِران والتطبيق وتنبيه السليقة لا بحشو رأسه بالقواعد وقتل وقته بمعرفة أوجه الإعراب حتى يقيم لسانه ويتنزه عن الخطأ الفاحش، ويبصر مرامي الكلام، ودقائق معانيه، ويتعلم من دينه ما يمسك عليه إيمانه وخلقه ويرغبه في الخير ويصرفه عن الشر، ويمنعه عن الحرام، ويعرف من الرياضيات الشيء العملي الذي لا يستغني عنه من غير اشتغال بالنظريات المجردة وما لابد من معرفته من علوم الطبيعة وقوانينها الأساسية وأسرار المخترعات، وأن يدرس الصحة والجغرافية والتاريخ العربي، وأن يعرف مبادئ لغة من اللغات الغربية وأمثال ذلك فما أردت الاستقصاء بل التمثيل) ص:154-155.
ثم انتقل بعد ذلك لبيان ما يلزم في المرحلة الجامعية ، حيث تنشأ أقسام تحضيرية لمدة سنتين أو ثلاث، تناسب التخصص الذي يختاره الطالب، ليجد بعد ذلك كامل راحته في القسم الذي اختاره بإرادته دون أن تفرض عليه المواد التي لا ترضي ميوله، وهذا النظام سيضمن اختصار مدة الدراسة وتقوية الاختصاص، وكسب الوقت الذي يستطيع الاستفادة منه في ممارسة هواياته، ثم من شاء الاكتفاء بالتعليم الثانوي والانصراف للحياة العامة كان له ذلك، ويكون حينها قد اكتسب من المعارف الدينية واللغوية ما يرفع عنه الجهل والأمية، ومن شاء التخصص والاستمرار يسّرنا له ذلك.
وتستطيع وزارة المعارف أن تلزم المدرسين بأن يكونوا مثالا كاملا للاستقامة والعفة والمروءة، وأن يكونوا قدوة للطلاب صالحة، فإنا قد رأينا من ليس كذلك، رأينا من يصحب طلابه إلى دور اللهو والفسوق! -في سبيل الاصلاح:106-.
ثم ركّز على ضرورة الاهتمام بقطبي العملية التعليمية وهما المعلم والتلميذ : فالمعلم يجب أن يكون أهلا لمهمته علما وسلوكا، وأن يظل مواكبا للقراءة وأن لا يقتصر على المقررات فحسب، يقول في كتابه “فصول في الثقافة والأدب”: (المدرس الذي يقتصر على ما تعلمه في المدرسة ، و لا يطالع ليوسع أفقه و يزيد علمه، يتخلف عن القافلة ويصبح بين الطلاب كأنه طالب حافظ لدرسه!!) ويزيد الأمر بيانا في كتابه -في سبيل الإصلاح 37-:
(هاتوا المعلم القويّ في علوم اللغة، صاحب الاطلاع فيها، والذوق في فهمها، يصلح هو فساد المناهج، ويقوم اعوجاج الكتب، وييسر عسر العربية، وهذا المعلم لا يوزن بميزان الشهادات وحدها، إلا إذا جاء وقت لا تعطى فيه الشهادات إلا لأربابها، وتكون شهادة حق لا شهادة زور)، لكن (مادامت مناصب التدريس في الجامعة وفي غير الجامعة تنال بالشهادات ولو كانت شهادات زور لا علم معها، وكان الأستاذ يلهو قبل الشهادة في فرنسا أو أمريكا ويلعب ثم يأتي بها، وكان يلهو بعد الشهادة ويلعب ويعتد عليها وحدها، ومادام لم يقبل على العلم صغيرا ولم يشتغل به كبيرًا…فكيف يصير عالما وكيف يخرّج علماء؟) -مقالات في كلمات ص.100-.
فالمدرّس الكفء قادرٌ على أداء رسالته مهما كانت ظروف العمل عسيرة، وهذا ما أكده الشيخ الطنطاوي بتجربته العملية واعترافاته الشخصية (كنّا نفرّ من المدرسة لأننا لا نجد فيها إلا جبّارًا عاتيًا عَبوس الوجه قوي الصوت بذيء الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة لأنكم تلقون فيها أبًا باسمًا شفيقًا يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم.
وكنّا نكره الدرس لأننا نجده شيئا غريبا وطلاسم لا نفهمها ولا ندرك صلتها بالحياة، ونعاقَب على إهماله ونجازَى على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس لأنكم ترونه سهلا سائغا، تدركون صلته بحياتكم وفائدته لكم، وتحفظونه لأنه لازم ومفيد لا خوفًا من العقاب ولا هربًا من الجزاء) -من حديث النفس ص 264-.
ولا بأس أن يتحرر المعلم من طوق الجدية ببعض المستملحات التي تخلق البسط وتلطّف الأجواء وتكسر الملل دون أن تكسر حاجز الاحترام بين المدرس و طلابه ، يقول الشيخ الطنطاوي في كتابه “فصول في الثقافة” ص.71: (المدرّس إذا التزم الجدّ الحصة كلها ولم ينفّس عن الطلاب بنكتة أو نادرة ملّوا درسه).
أما موضع التلميذ في هذه الإصلاحات، فقد أكد الشيخ على ضرورة تحبيب الدراسة لقلبه، وجعله يدرك قيمة العلم وأهميته في حياته (أما التلميذ فيجب أن نحبّب إليه المطالعة، ونعرفه قيمة العلم ونذيقه لذته، ولا يكون ذلك مادامت المجلات والمطابع مفتحة أبوابها ، لكل هذيان وعبث صبياني). وقد لفت الشيخ الانتباه إلى أمر مهم لامسته كما لامسه غيري من المدرسين وهو تدنّي المستوى العلمي للتلاميذ مع توالي السنين، وهو أمر يؤكد النفور الكبير للتلاميذ من القراءة وعدم شغفهم بها كما كان سلفنا الصالح ، وإن كان في عهد الشيخ أمرا بيّنا فهو في عهدنا أشد وضوحا وبيانًا في ظل الملهيات الكثيرة التي ضجّت بها الحياة المعاصرة، يقول الشيخ رحمه الله في كتابه “في سبيل الإصلاح ص.37”:
(ولقد اشتغلتُ بالتعليم دهرا في الشام والعراق ولبنان فما فارقت فوجا من الطلاب إلا استقبلتُ أضعف منه، حتى انتهى بي الأمر، أن دعيت (من سنتين) إلى تدريس الأدب لطلاب السنة الأخيرة من مدرسة ثانوية، فدخلت فوجدت رجالا كبارًا، لهم طول وعرض، وأناقة في الثياب، ولباقة في الخطاب، وسمت ووقار، فهِبتهم وأعددت العدة لتعليمهم، وحشدت كل ما أعطيت من قوة وعلم، على ضعف قوتي وقلة علمي، ومضيت على سنني حتى جاء موعد سؤالهم، فإذا هم من أئمة الجاهلين، وإذا هم لا يحسنون قراءة بيت ولا فهمه ولا إعرابه، ففررت منهم لما عرفتهم، ووجدت أني إن كلمت ثيابهم وهيئاتهم منعتني جهالتهم، وإن خاطبت جهالتهم منعتني هيئاتهم).
هذه إذن كانت رحلة موجزة مع شيخنا الطنطاوي وجهاده في تربية النشء وتعليمهم ما ينفعهم، و تقلبه بين أسلاك التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، رحلة عانى فيها الكثير بسبب آرائه واستماتته على قيمه ومبادئه، ورفضه الخنوع والخضوع للمساومات والمغريات، وحرصه على مصلحة طلابه أولا، نموذج رفيع نحتاج أن نستنسخه بيننا حتى نقوّم اعوجاج تعليمنا ونقوّم ذواتنا أولا نحن كأساتذة ومربين ، نحتاج أن نضع نصب أعيينا هذا الهدف السامي الذي جعل الشيخ وأمثاله من المعلمين الشرفاء يمضون قدما في سبيل تربية النّشء دون تقاعس ولا تخاذل:
(ما كنتُ ولا كان كثير من إخواني نعُدُّ أنفسنا معلّمين فقط، وما كنّا نرانا مسؤولين أمام وزارة المعارف وحدها ، نطبّق مناهجها ونطيع أوامرها، بل كنا نُعِدّ الجواب للسؤال يوم العرض على الله : السؤال عن تربية الأولاد على ما يُرضيه ، على الشريعة التي بُعث بها خاتم رسله، عن تخريج أمة جديدة تؤمنُ بالله إيمانا خاليا من الشرك كله، الظاهر منه والخفيّ. تخاف الله ولا تخاف في الحقّ أحدا إلا الله ، تستهين بعذاب الدنيا مهما اشتدّ للخلاص من عذاب الله في الآخرة وهو أشدّ) -ذكريات 3/318-.
وقد قدّر الله للشيخ أن يترك سلك التدريس ويلتحق بسلك القضاء، فتيسّر له حينئذ أن يبصر الفارق الكبير بين العملين، وأن يقف على مواطن التعب والرفاهية بين التعليم والقضاء، لذا سأجعل ختام مقالتي هذه المقارنة البديعة التي تختزل معاناة كل معلم صادق:
(يسألني كثير من الإخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة الجسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم وازدياد أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته:
أما أنه (راحة جسم) فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن أسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكت تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى أنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغص بالماء الزلال، وأشرق بالريق، وأجد للكلمة الواحدة أنطق بها مثل حزة السكين ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السلكة فينفرط العقد ويبطل النظام.
وكنت أدخلْ الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، و مَا أكثر أحداثهم! وأيسرها ضجة كضجة حمام انقطع ماؤه كما يقول الشاميون في أمثالهم العامية.
ثم إذا خرجت من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين) لحقني طائفة من الطلاب يسألونني فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صوره فيُحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأصِل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي… فغدوت الآن ولا عمل لي إلا القعود على كرسي القضاء أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكتاب (أَحْمَدَ) الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال، وما ينغص علي هذه الراحة إلا خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطق بعد كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة ترجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكلّ) -من حديث النفس ص .229-.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *