الصــــــــــــبــــر

المسلم الذي ارتضى لنفسه طريق التضحية لن يستمر في هذا الطريق ما لم يتحلى بالصبر، فلن يدوم تماسك البنيان ما لم نتواص بالحق ونتواص بالصبر فالمؤمنون جميعا مخاطبون بقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.

الصبر لغة وشرعا

الصبر لغة هو المنع والحبس، أما شرعا فقال الطبري رحمه الله: “الصبر منع النفس محابَّها وكفها عن هواها”، وقال أحد السلف: “الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة”، وقال ابن الجوزي رحمه الله عن الصبر هو: “حبس النفس عن فعل ما تحبه وإلزامها بفعل مال تكره في العاجل، مما لو فعله أو تركه لتأذى به في الآجل”، وقال ابن عطاء رحمه الله: “الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب”، وقال أحد السلف: “حقيقة الصبر ألا يعترض على المقدور”. وجماع ذلك أن الصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن اقتراف الذنوب والمعاصي.

فضيلة الصبر  

قال تعالى: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”، قال ابن كثير رحمه الله: “وقوله: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ”. قال الأوزاعي: “ليس يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفا”، وقال ابن جريج: “بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط، ولكن يزادون على ذلك”، وقال السدي: “إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” يعني: في الجنة. عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر” متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: “من يرد الله به خيرا يصب منه” (أي يصيبه ببلاء) رواه مالك والبخاري. وعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: “ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوة الله أن يعافيك فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف” رواه البخاري.

 أنواع الصبر

والصبر على ثلاثة أنواع: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله. فالأول: الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المُصبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: “َوَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ”، يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر. والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض. والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها، مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها، فهذا معنى كونه صابرا مع الله، أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه، وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين. قال أحد السلف: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد،

 أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار مُتعَلقه إلى ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها، وهذه الأنواع الثلاثة هي التي قيل فيها: لا بد للعبد من أمر يفعله، ونهي يجتنبه، وقدَر يصبر عليه. وينقسم باعتبار الأحكام الخمسة إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح. فالواجب: الصبر عن المحرمات، والصبر على أداء الواجبات، والصبر على المصائب. والمندوب: الصبر عن المكروهات، والصبر عن المستحبات، والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله. والمحظور: الصبر على الطعام والشراب حتى يموت، والصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار إذا خاف بتركه الموت، ومن الصبر المحظور صبر الإنسان على ما يقصد هلاكه من سَبُع ونحوه. والمكروه: صبره على المكروه وصبره عن فعل المستحب، وكذلك الصبر على الطعام والشراب وجماع أهله، حتى يتضرر بذلك بدنه. والمباح: هو الصبر عن كل فعل مستوي الطرفين خُيِّر بين فعله وتركه.

الصبر والتصبر

 كثير من الناس يتعللون بأن طبائعهم تغلبهم وأنه ليس لديهم القدرة على التحمل والصبر، ولو جاهد أحدهم نفسه لكظم الغيظ وعف عن الحرام، ووسع صدره وقنع بما آتاه الله إياه، وتجلد على ما ابتلاه الله به حتى يكتسب هذا الخلق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنيه الله ومن يتصبر يصبره الله…” رواه البخاري، ويوضح هذا المعنى الحافظ ابن حجر رحمه الله بقوله: “..يصبره الله: أي فإنه يقويه ويمكِّنه من نفسه، حتى تنقاد له ويذعن لتحمل الشدة، فعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه” الفتح11/304. ولأن طعم الصبر مُرٌّ فلا بد أن يتعهد الإنسان نفسه ويتزود بالصبر الجميل، ومما يعين المسلم على التصبُّر استحضار ما أعد الله للصابرين من تكفير السيئات ورفع الدرجات وتكثير الحسنات. ويُعِينُ المرء على ذلك كذلك تذكرُّ سير الصالحين والتأسي بهم فحين ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا  قدح في قِسْمَة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر” البخاري، وقد وجه القرآن إلى هذا المعنى فقال تعالى: “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *