المسألة الإرثية المثارة بالمغرب: سياقها وأصولها الفكرية والفلسفية ومناقشتها 1/3 حسن فاضلي أبو الفضل

مقدمة
إن ما يثار حول المسألة الإرثية بالمغرب ليس حديثا عرضيا أو اجتهادا من شخص أصاب فيه أو أخطأ، بل هو جزء من مخطط دقيق ومتكامل تم الترويج له وتنزيله بعد ذلك على خطوات ومراحل متتالية ومُحكمة.
فكان أوله ما تعلق بلغة الوحي وخطاب الشرع، فلكي تنفصل الشعوب عن دينها نفسيا وروحيا، احتاج المخطط إلى فصل الشعوب العربية/الأمازيغية عن لسان كتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، كما أن الدول المستعمِرة/المحتلة أدركت صعوبة اختراق الحكومات والمجتمعات المتدينة والمحافظة، فدعت إلى فصل السياسة عن المعتقد الغيبي وفصلها والناس عن الأخلاق، ولكي يفقد الدين قداسته ورهبته، وتفقد الشريعة قيمتها الامتثالية في قلوب المسلمين، دفعت نحو التشكيك في قطعيات الشريعة وظنياتها الراجحة والطعن في مقدساتها، ولكي تستهدف عمق الأسرة المسلمة ومقومات استقرارها، اقتضى ذلك نشر البنوك وإغراقها في القروض الربوية، ولكي تُفقدها تماسكها وقيمها كان هذا الكم الهائل من المسلسلات والأفلام والمقاطع الإباحية…
وهذه مقالة تكشف شيئا من سياق هذ المسألة الإرثية -الثقافي- وأصولها الفكرية والفلسفية، وأنها خالية من أي اجتهاد شرعي/علمي، وأنها لم تستند إلى مصلحة شرعية ولا مطلب اجتماعي، وإنما إلى مروق أصحابها ودعاتها، ولا أعنيهم بها كما لا أعني إقناعهم ولا أقصده؛ لعلة بسيطة وهي خُلوهم من الأهلية العلمية والعقلية، وإنما أقصد بها كل الناس ما عدا من سبق!
وقبل الشروع في بناء المقالة ومناقشة القضية ومحاججتها، يحتاج الأمر لذكر مسلمتين أَوَليتين:
أما الأولى: فإذا كان الله عز وجل هو ُمرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ومُنزل الكتاب، فإن كل ما في هذا الكتاب منسوب لله تعالى سواء كان قصصا أو عقيدة أو أحكاما أو أخلاقا أو غيره، فأحكام هذا الكتاب وشريعته إذن إلهية المصدر وربانية، والله من صفاته الكمال فكذلك كتابه وشريعته، وشرط كمال الكتاب وكمال شريعته أن تكون كل أحكامه مصلحة وكل أحكامه عدلا.
طيب! هل إذا طال الزمان وتغيرت الأحوال يفقد الكتاب كماله وتفقد الشريعة كمالها ومصلحيتها وعدلها؟ الجواب -طبعا- لا؛ لأن كما هذا الكتاب لا يتأثر بطول الزمان ولا بتغير الأحوال، ولأن كمال الشريعة ومصلحيتها وعدلها لا تتأثر بطول الزمان وتغير الأحوال.
وأما الثانية: إذا كانت العملية الجراحية في مجال الطب لا تُجرى إلى من طبيب (اء) حاذق طويل الخبرة بالأسقام والعلل وأبدان الخلائق، وإذا كانت البنايات الشاهقة وناطحات السحاب لا تقوم إلا على تصميم مهندس (ين) حاز من قوانين الهندسة وقواعد الحساب ما أهّله لذلك، فكذلك النظر في خطاب الشرع والبحث في أحكامه لا يقدر عليه إلا من عقل عن المشرع خطابه، وأحاط بأصوله وخبر فروعه وأدرك مقاصده وعلل أحكامه، وبرع في تنقيح مناطات الأوصاف المعتبرة في الأحكام وتخريجها وقبل ذلك تحقيقها، وعلم من فقه الواقع وحال المكلف ما به يوافق مقصود الشرع في استنباطه للأحكام ويكلفه بها، ونال من لسان العرب وأساليبه مثل ذلك.
وإذا كانت عدم أهلية الجرّاح تلحق الضرر بالأبدان وتزهق الأرواح، وعدم أهلية المصمم تهدم العمران والمعمار والبنيان، فكذلك عدم أهلية مستنبط الأحكام تساويها في الضرر بل تفوقها، فقد دل من استقراء الشرع ونصوصه أن حفظ الدين مقدم على ما سواه من النفس والعقل وغيره.
فهل ترى أن من قال مقالته في تحريف شرع الله قد تحقق بما ذكرنا؟ اللهم لا!

أولا – السياق الثقافي العام للقضية:
بعدما أنهت و.م. الأمريكية الحرب الكبرى (العالمية) الثانية لصالحها، وذلك بعد أن اضطرت اليابان للاستسلام والخضوع للشروط الأمريكية، سعت هذه الأخيرة نحو نظام عالمي جديد، وهو نظام ما بعد الحرب الكبرى الثانية؛ نظام جعلها تتولى ريادة العالم السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والسيطرة على ثرواته، مما اضطر أكثر دول العالم للاصطفاف في صفها بصفتهم (حلفاء)، بحيث إذا لم توافقها هذه الدول فَعلى الأقل لن تعارضها في سياستها الخارجية.
ذكر “نعوم تشومسكي” في كتابه (ماذا يريد العم سام؟) أن و.م.الأمريكية تسيطر على نصف ثروات العالم، وذكر في كتابه (الهيمنة أم البقاء) أنها تسعى دائما للحفاظ على هيمنتها سواء من خلال التهديد بالقوة المسلحة أم باستعمالها فعلا، وأن السياسة الإمبريالية الكبرى تؤكد على حقها في شن (حرب وقائية) لإزالة أي تهديد (متخيل). وهو دون التهديد (المحتمل) الذي قد يؤسَس على تقارير خاطئة أو كاذبة كما هو الشأن مع العراق…
هذه الهيمنة السياسية والعسكرية لا يمكن أن تستمر ولا يمكن أن يطول عمرها إلا إذا رافقتها هيمنة ثقافية وفكرية، فهي الضامنة لها؛ تسبقها وتُمهد لها وتلحقها لتُبقي نتائجها أو تُطيل عمرها. فسنوات من الاحتلال العسكري والثقافي قد تُخضع شعوبا وأمما للقوى المحتلة قرونا طويلة. وهذا الأمر أدركته و.م.الأمريكية و(حلفاؤها) جيدا فسعت إليه، ونحن نعيش نتائجه الآن.
لحد الآن يبدو أن لا علاقة بين المسألة الإرثية المُثارة في بلادنا وبين الهيمنة الأمريكية وحلفائها! على العكس تماما؛ فالدول (الكبرى) أدركت جيدا من تاريخ الأمة والشعوب الإسلامية ودعوات الإصلاح أنها تسعى دائما إلى تبليغ رحمة السماء وعدلها إلى كل أهل الأرض، وشواهد الأندلس والقوقاز لازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، فيما الدول والشعوب الإمبريالية تسعى إلى الاستيلاء على خيرات وثروات ضعفاء الأرض، وشواهد إفريقيا وأمريكا اللاتينية وغيرها لازالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا.
ولأن هذه الدول الكبرى تسعى للحفاظ على مصالحها في الخارج فقد تم توحيد العدو بينها وهو (العالم الإسلامي)، ومن ثم بدأ التخطيط لتفكيك دول هذا (العدو) وتقويض نهضة الأمة العلمية والفكرية والنفسية وغيرها، وإعادة رسم حدودها وخرائطها. لكن كيف تم تقويقض هذه النهضة؟
تم ذلك من خلال استهداف مقومات هذه النهضة وأسسها، وكل ذلك في كتاب الله الذي قلنا إنه متصف بالكمال وأن شريعته متصف بالكمال وأنه اشتمل على مصلحة الإنسان كله والزمان كله والمكان كله؛ فهو يأمر بالعدل ويأمر بالإحسان وإيصال الحقوق إلى أهلها، ويدعو إلى العلم ويدعو إلى التدبر والتفكر ويحث على إعمال العقل وإدارة الفكر، وينهى عن عكس ذلك، بل ويرتب عليه حسابا أُخرويا…
ومن هنا بدأ التنفيذ بفصل هذه الأمة وشعوبها عن هذا الكتاب، والكتاب إنما أُنزل بلسان عربي مبين، وأول منازل العمل به فهمه ولا يكون ذلك إلا بلسان عربي؛ ولذلك رأينا الدعوة إلى اعتماد اللسان الدارج (العامية) في مصر والمغرب وغيرهما.
وههنا أورد نصا يثبت ما سبق، وهو مقتطف من دورية بعثها (المارشال) ليوطي إلى رؤساء المناطق التابعة للإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، نشرها صاحب كتاب ((Le maroc de demain ونشرها د.عبد العلي الودغيري في كتابه (الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب)، جاء فيه “..إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام، لأن هذه اللغة يتم تعلمها بواسطة القرآن، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج إطار الإسلام.
ومن الناحية اللغوية، علينا أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية، ولذلك نحتاج إلى أشخاص عارفين بالبربرية، وعلى ضباطنا في الاستخبارات أن يأخذوا بكل جدية في دراسة اللهجات االبربرية… كما ينبغي أيضا إحداث مدارس فرنسية بربرية يتم فيها تعليم الفرنسية للبرابرة الصغار”(ص86).
هذه الدورية بعثها المارشال يوم 16يونيو1921، ونتائجها من (امتثال) أوامرها و(اجتناب) نواهيها لازالت قائمة إلى يومنا هذا، ولذلك نفهم الدعوات المتكررة لاعتماد (اللسان الدارج) في المجال التعليمي والتربوي، ونفهم لِم سارع (فلان) إلى وضع قاموسه الدارج الذي يشرح فيه كلام الأسواق بكلام المحطات الطرقية، ونفهم سبب إثارة القلاقل بين العرب والأمازيغ، ونفهم لم تصر (ميسلون نصار) على استضافة أبطال الدورية من مختلف التخصصات، ولا تخصص لهم!
يبدو الآن أن العلاقة بدأت تتضح بين القوى الاستعمارية الكبرى وبين تحريف دين المسلمين، بين ثقافة المحتل وبين المَرَقة عندنا، ولولا أن المقالة ستطول بنا لذكرنا لأشكال تحريف الدين عندنا أصوله من كتب القوم ورسائلهم ومذكراتهم.
فكل ما يصدر عن هؤلاء من أقوال و أفكار ونظريات إنما يستهدف وحدة المغاربة -بما هم جزء من أمة الإسلام- ومقومات استقرارهم وحل رابطتهم؛ وذلك أن “أول شروط الفكر الصحيح أن يكون مساعدا على بقاء هذه الأمة ومتابعة سيرها إلى الأمام، وكل فكرة تعمل على حل رابطتها وتمزيق وحدتها والقضاء على كيانها كأمة مغربية لها مقوماتها الخاصة ومميزاتها عن غيرها، فهي فكرة لا يمكن ولا يجوز أن تجد لها محلا من قبولنا واعتبارنا.
وبما أن الأفكار لا تظهر دفعة واحدة بل تتغلغل في المجتمع بواسطة المظاهر الجزئية، فواجبنا أن نبحث عن هذا الشرط في تلك المظاهر، فإذا وجدنا أثرا منه فذاك وإلا فيجب أن لا نتهاود في مقاومتها والقضاء عليها، ولو كانت مستترة بأبهى صور العصر وأزهى مفاتن الزمان” (النقد الذاتي، ص85، علال الفاسي).
لذلك كانت أقسى وأخطر مراحل الاحتلال هي مرحلة ما بعد خروج جنود المحتل وعساكره، حينها تبدأ عملية تفكيك المجتمع وضرب كل مقومات نهضته بالوسيلة البشرية الداخلية وبالدعم المالي الخارجي.
وللبحث بقية نرجئها للعدد القادم بحول الله..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *