من الأمور البديهية أن القوانين والدساتير تكتب بلغة محكمة لا تقبل التأويل، فالقانون وثيقة مرجعية لا تقبل الغموض فلا يليق كتابتها بلغة مبهمة تفتح الباب أمام التأويلات المتشعبة التي تمتهن النص القانوني فتجعله عرضة للتحريف والاستغلال لإحقاق الباطل وإزهاق الحق، هذا عن قوانين البشر، فما بالك بكلام الله وشرعه؟؟
إن القرآن الكريم تكلم به الواحد الأحد سبحانه، فكان كلامه كلاما محكما منضبطا جامعا مانعا (لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ) [فصلت:42]، ولذلك نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين لم يجد العرب أي صعوبة في فهم المراد منه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم بسليقتهم العربية على دراية تامة من فقه كلام الله وتنزيل أحكامه، ونفس الشيء يقال عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، فكان كلامه جامعا مانعا منضبطا هو الآخر كالقرآن.
وعلى نور الوحيين تفرعت علوم الشريعة الإسلامية الربانية، ومنهما انطلق المفسرون والمحدثون والفقهاء واللغويون والأصوليون وغيرهم في تأسيس العلوم الشرعية بلغة الوحي، فكانت لغة متينة رصينة لا تقبل كلماتها العبث، وكانت الكلمة الواحدة في بابها دالة على معناها المراد منها مؤسسة للحكم الشرعي دون ارتياب فلا تقبل الزيادة أو النقص.
ولما اقتضت المصلحة العامة تقنين الأحوال الشخصية في بلدان المسلمين، انبرى الفقهاء إلى صياغة نصوص هذه الأحوال وفق لغة علمية عربية أصيلة، فكانت مصطلحاتها مستمدة من الوحيين، وكانت بنوذها محكمة لا غموض فيها، فهي تمثل مرجعية المسلمين في شؤون الأسرة وفق المنظور الشرعي، وهذا ما جعل محاولة البعض إعادة تفسيرها تفسيرا جديدا بدعوى التجديد تصطدم مع صلابة نص محكم لا يقبل التحريف.
ولقد حاول التيار العلماني في القديم والحديث إبعاد المسلمين عن المرجعية الشرعية في مسائل الأحكام عامة ومسائل الأسرة خاصة، وذلك بنهجه لمسلكين:
المسلك الأول كان بمهاجمة المقدسات والنيل منها، وهي جرأة قوبلت بالرفض، فحب الدين أمر فطري عند المسلمين، وهكذا كان فشل التيار العلماني أمرا حتميا، لينتقل بعد هذا الفشل إلى اعتماد المسلك الثاني.
وأما المسلك الثاني فكان بتبني سياسة النفاق، بإظهار الاعتراف بالإسلام دينا ظاهرا، وممارسة عملية علمنته باطنا، عن طريق إحياء ما يسمى بالقراءة الجديدة للنص الشرعي.
وستكون مدونة الأسرة المغربية هدفا لهؤلاء، باستعمالهم عملية استبدال المصطلحات الشرعية بمصطلحات غربية غريبة عن اللغة العلمية التي كتبت بها هذه المدونة وعرفها المسلمون بها، وهي عملية تسعى لتطبيع العقل المسلم مع الأفكار العلمانية القائمة على التفسخ والانحلال من القيم والأخلاق.
فمثلا: استبدلوا مصطلح الزنا الذي جاء في القرآن والسنة بمصطلح: العلاقات الرضائية أو الحرية الجنسية.
واستبدلوا مصطلح: فعل قوم لوط بمصطلح: المثلية أو مجتمع الميم.
واستبدلوا مصطلح تعدد الزوجات بمصطلح: ظلم المرأة.
وهكذا ما تركوا مصطلحا شرعيا له معناه الرباني المحكم إلا واستبدلوه بمصطلحاتهم المبينة على الهوى والانفلات من قيود الشريعة الربانية، إمعانا منهم في إفساد الأسرة التي هي نواة المجتمع.
وإن الناظر في مسيرة هذه الحركات العلمانية في تنظيرها لمستقبل الأسر المسلمة ودعواتها إلى إعادة صياغة مدونة الأسرة ليخرج بنتيجة لا تقبل الشك أو الارتياب: وهي أن هذه الحركات تتحمل كامل المسؤولية في التصدع الخطير الذي نال من مؤسسة الأسرة المغربية، بسبب مقترحاتها التغريبية التخريبية غير المتوافقة مع الخصوصية الدينية للمغرب والمغاربة، وخير مثال على هذا ما آلت إليه الأوضاع بعد التعديل الأخير للمدونة، ويكفي لتجلية الصورة أن نطرح التساؤل التالي:
كيف كانت الأسرة المغربية قبل تعديل المدونة وكيف أصبحت بعده؟؟
إن ارتفاع نسبة الطلاق والأطفال المتخلى عنهم وما يتبع هذا من عزوف الشباب عن الزواج وزيادة أعداد العانسات في المجتمع وانتشار جريمة الإجهاض سببه فشل المقترحات العلمانية في رؤيتها لمدونة أسرة مغربية، بسبب اعتمادها رؤية مشحونة بمصطلحات فاسدة تحمل بين طياتها مخالفة صريحة للمقدسات والثوابت.
إن من الواجب اليوم على العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ وأهل التربية والتعليم الحذر من الانسياق وراء التطبيع العلماني مع المصطلحات الغربية، وأن يتسلحوا بالمصطلحات الشرعية في عملية تنوير المسلمين بما يحاك لهم من مكر خبيث تجاه ما بقي لهم من معالم دينهم في مدونات أحوالهم الشخصية، وإلا فإن قابلية تحليل الحرام ستكون ممكنة بفعل تأثير حرب المصطلحات… والله غالب على أمره…