من هدْي النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم (1/3) ذة. لطيفة أسير

لكل مدرسة رُوادها، ولكل شيخ أتباعه، ولكل معلم تلامذته، يسطع نجمهم حينا من الدهر ثم يأْفلُ سيْرًا على سنن الكون، إلا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، أبَى الحق سبحانه إلا أن تبقى مشرعة الأبواب، يلِجُها كل عاشقٍ للعلم الأصيل، وينهل من فيض عطائها كل باحث عن النفع العميم، فظلّ معلّمها شامخ المقام سامق الذكر، وما انقطع روادها على مرّ التاريخ الذي أعقب البعثة النبوية الشريفة. مدرسة موصولة ينابيعها بالسماء، فيّاض نورها من مشكاة النبوة التي استنارت بنور الله وامتاحت من توجيهاته المسددة الحكيمة. ولئن كان المداد سال بالحديث عن كل ما دقّ في السيرة النبوية العطرة، فإنّا لا نفتأ نؤوب إليها لنقتبس منها دروسًا وعبرًا، كلٌّ في مجال بحثه وتخصصه، لأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن حكايةَ بطلٍ بزغ نجمه في ضرب من ضروب الحياة فحسب، بل كان جوهر الحياة وكنهها، ضخّ فيها دمًا جديدًا، وبثّ فيها من فنون الخير والصلاح ما جعل أعداء الدين -الذين ينكرون نبوته- يصدعون بتفردها ويُقرون بتميزها.
ولأن ما يقضّ فكر كل حرّ اليوم هو التعليم العربي وسياساته العشوائية التي تخبط خبط عشواء دون مبالاة بحجم الدمّار الإنساني الذي تُحدِثه في الأجيال المتعاقبة، فقد عنّ لي تخصيص هذا البحث الموجز للحديث عن أبرز الوسائل التعليمية التي مارسها الرسول صلى الله عليه وسلم في تنشئته لذاك الجيل الفريد انطلاقا مما ورد في بعض كتب السيرة النبوية والحديث النبوي الشريف.
تعتبر الوسائل التعليمية مكونًا أساسًا في العملية التعليمية، وبراعة استخدامها رهينة بالمدرس أولا لتحقيق الإفادة العلمية والمهاراتية المنشودة لدى الفئة المستهدفة. وقد عرّف أهل الاختصاص الوسائل التعليمية بأنها: (الأدوات والآلات والمعدّات التي يستخدمها المعلم، لتوضيح محتوى الدرس للتلاميذ، سواء داخل الفصل أو خارجه، بقصد تحسين ورفع درجة كفاءة العملية التعليمية، وبلوغ الأهداف التعليمية في أقل وقت وجهد ممكن دون الاستناد إلى الألفاظ وحدها).
والمتأمل في الخطاب النبوي يلمس تفنن الرسول صلى الله عليه وسلم وبراعته في استخدام هذه الوسائل التعليمية، ومزجه أحيانا بين عدة وسائل في الموقف الواحد -كما سيتّضح ذلك من خلال هذا البحث-:

1/ مراعاة حال المخاطَب:
من أبجديات البلاغة مخاطبة المتكلم بما يوافق حالته الفكرية وظروفه الإنسانية، ولهذا يلاحَظ (في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لغيره مراعاته للعوامل المؤثرة في شخصية المخاطَب، ويَبرز منها: ديانته، ومستوى تديُّنه، وبيئته التي عاش فيها واكتسب طباعها، ومنزلته الاجتماعية أو الوظيفية التي تضفي عليه طابعاً معيَّناً، وجنسه -ذكراً أو أنثى- وعُمُره -كهلاً أو شاباً أو طفلاً- وصفاته السلوكية التي يتصف بها) -يوسف العليوي في مجلة البيان-.
فخطابه صلى الله عليه وسلم مع أهله وأصحابه، ليس كمثيله مع الأعراب الذين يحتاجون بسبب شدتهم إلى ليونة تخفف حدّتهم، وليس كخطابه مع أهل الكتاب ممن يحتاجون لأدلة علمية تدحض شبهاتهم. ويمكن أن نلمس هذا الأدب النبوي في الخطاب في مواطن كثيرة نذكر منها للاستئناس حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل الذي أساء في صلاته، فكان الرسول صلى عليه وسلم يأمره بأدب قائلا “ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ”، يقول الإمام النووي تعليقا على هذا الحديث -كما نقل ذلك يوسف العليوي في مقالته- “وفيه الرفق بالمتعلم والجاهل وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقه على المهم دون المكملات التي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها”.
وكذا في مداعبته صلى الله عليه وسلم للصبيان بما يناسب عمرهم كما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير؛ فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: (أَبَا عُمَيْر! مَا فَعَلَ النُّغَيْر) أخرجه البخاري.
ونسوق مثالا ثالثا في مخاطبته صلى الله عليه وسلم لعِلْية القوم من المشركين ودعوتهم للتوحيد بأسلوب عقلاني: دخل حصين (والد عمران بن حصين)، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوسعوا للشيخ، وعمران ولده في الصحابة، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها؟ فقال: يا حصين كم تعبد من إله؟ قال: سبعة في الأرض وواحد في السماء، قال: فإذا أصابك الضر لمن تدعو؟ قال: الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من تدعو. قال: الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشرك معه، أرضيته في الشرك؟ يا حصين أسلم تسلم فأسلم. (السيرة الحلبية ج1 ص402).

2- الحوار:
عن أبي أمامة قال: “إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه! فقال: أدنه، فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال: أتحبه لأمّك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك. قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء”. أخرجه أحمد.
وأنت تتأمل هذا الحوار النبوي المتّشح بكل مقومات السمو والرفعة، تدرك أهمية الحوار في نقل المعلومة وتبسيطها، بعيدًا عن أيّ تنطّعٍ أو قمع أو تعنيف أو تحقير، بل إنّ هذا التدرج الذي يراعي المستوى الفكري للمخاطَب وظروفه وسنّه، يفرض على مدرّسي اليوم العضّ على الحوار بالنواجذ باعتبار الظرفية التي يمر بها جيل اليوم الفاقد لكل مقومات التعقّل والاتّزان.
والحوار النبوي كما ذكر د. أبو العلا الحمزاوي في كتابه “الخصائص البلاغية للبيان النبوي” (أسلوب راقٍ من أساليب الدعوة والتعليم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستطيع من خلاله أن يكتشف ما عند الصحابة من أفكار ومعلومات بخصوص ما يريد أن يلقيه إليهم من تعليم وتوجيه، كما كان يستطيع من خلال الحوار أن يصحح ما علق في أذهانهم من أفكار خاطئة عن الموضوع مجال التعليم، كما كان يستطيع من خلال الحوار أن يحل الإشكالات التي تعترض طريق الفهم عند بعض الصحابة، وكان يحثهم من خلال الحوار على إعمال الذهن وكدّ الفكر للوصول إلى الصواب والحق. ولأجل هذه الأسباب مجتمعة سلك النبي صلى الله عليه وسلم طرقاً مختلفة من الحوار نظراً لما له من جوانب إيجابية في الدعوة إلى الله عز وجل حيث يتفاعل الصحابة من خلاله مع الوحى فيسألوا ويستفسروا لأجل معرفة الصواب والعمل به).

3- ضرب المثل:
جعل الله أفهام العباد تختلف وتتباين، فمنهم الفطِن الذي يلمح بواطن الكلِم من ظاهره، ومنهم من يستثقل عليه الفهم فيحتاج معه المعلّم لبسط سبُل أخرى لتقريب المعنى لذهنه، وفي ضرب المثل تحقيق لهذا المسعى. الذي يعتبر منهجًا نبويًا جسّدته سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العطرة، حيث كان يضرب للناس الأمثال بأمور محسوسة ومشاهدة تجعلهم يرون المعنى رأْيَ العين.
(والمتأمل للأمثال النبوية يجد التنويع صفة ظاهرة فيها، فقد نوّع صلى الله عليه وسلم في الممثِّل وضارب المثل نفسه، فتارة يسند ضرب المثل إلى نفسه صلى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري الذي مثّل فيه حاله مع الأنبياء قبله، وتارة يسند ضرب المثل لله عز وجل كما في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد “إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً”.. الحديث، وتارة يسند ضربه للملائكة كما في حديث البخاري في قصة الملائكة الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، والشاهد فيه أنهم قالوا إنّ لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، فضربوا مثلاً لحاله مع أمّته. ونوع كذلك في موضـوع المثل والغرض الذى سـيق لأجــله.
فضرب المثل في موضوعات متعددة ولأغراض شتى من أمور العقـيدة، والعبادة، والأخلاق، والزهد، والعلم، والدعوة، وفضائل الأعمال، والترغيب والترهيب، وغير ذلك.
ونوّع كذلك في أسلوب العرض وطريقة ضرب المثل، فاتخذ لضربه طرقاً متعددة، وأساليب مختلفة، وسلك في ذلك كل ما من شأنه إيضاح المراد وإبرازه ماثلاً أمام الأعين) -من كتاب الخصائص البلاغية للبيان النبوي للدكتور محمد أبو العلا أبو العلا الحمزاوي-.
ومن أمثلة هذا البيان النبوي في ضرب المثل ما ورد عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ الْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ، قَالَ: إِنِّي لَفِي الرَّكْبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَتَى عَلَى سَخْلَةٍ مَنْبُوذَةٍ، قَالَ: فَقَالَ: “أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا؟”، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: “فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا”. (سنن ابن ماجة كتاب الزهد باب مثل الدنيا).
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *