فيسبوكيات (ج1) ربيع السملالي غُربة

– حين أجلسُ إلى رجل من أهل الدّنيا، لا يفقه شيئا في الأدب وفنونه، ولا يعرف شيئا عن العلم وألوانه = أشعر بالغربة، بالملل، بالضّجر، أريد أن أحدّثه عن الجاحظ وابن تيمية وشكسبير وكزانتزاكي وميلان كونديرا وغيوم ميسو والعقاد وطه حسين وعبد الفتاح كيليطو، فيحدّثني عن أفخر السّيارات، وألذ الوجبات الصباحية والمسائية، وعن أثمنة القمح والعدس والخميرة.. وعن مباريات كرة القدم، ثمّ يسرف في الحديث عن النّساء ومغامراته معهنّ… وعن ألوان جواربهن وتصفيف شعورهن، واتّساق أجسامهن.. وهلمّ جرّا إلى ما لا نهاية.. لذلك أتجنّب ما استطعتُ المناسبات والحفلات وأبقى حِلْسَ بيتي لا أبرحه إلا لضرورة ليس لي منها بدّ…
بائعة الزّيتون
– بائعةُ الزّيتونِ الجالسةُ ببضاعتها على ناصية زُقاق ضيّقٍ بمدينة (شفشاون)، نظراتُها قبلَ الغروبِ مساءَ أمسِ كانتْ تبحثُ عن شيء ضائعٍ لها بينَ منعرجات وجهي اليابس، ذكّرتني تفاصيلُها الصّغيرةُ بأختِ البَطَلِ في روايتي الجديدة (أنتِ والزّمنُ).. وفتحت شهيتي لإعادة النّظر في رواية غيوم ميسو: (أنقذني)..
العلم ثلاثة أشبار
– حينَ قرأتُ أوّلَ كتابٍ انتفختُ كَدِيكٍ روميّ، وحين قرأتُ ثلاثة كتبٍ شرعتُ أنظرُ إلى النّاسِ بسخرية، وأتحدّثُ إليهم باستعلاء، وحينَ قرأتُ عشرة لم أعُدْ أرى أحدًا سوايَ، وحين انتهيتُ من قراءة مائة بدأتْ ترجعُ إليّ فطرتي الهاربة رويدًا رويدًا.. إلى أن قرأتُ المئات فعلمتُ أنّني كنتُ ظلومًا جهولا.. ولابدّ من ترميم ما أفسده التّعالم والغرورُ ولا يكون ذلك إلاّ بحبس النّفسِ على ألف كتاب متبقية في الجانب الأيسر من مكتبتي..
وجهة نظر
– حين يتّفقُ صديقان أو ثلاثة أصدقاء على السّفر لبضعة أيّام، يَجملُ بهم أن يحدّدوا اليومَ الذي سيخرجون فيه قبل أسبوعٍ مثلاً أو أسبوعين، ويتّفقوا على كتابٍ تميلُ إليه طبيعتهم الدّراسية، ليقرأوه كما ينبغي أن تكون القراءة قبل الانطلاق فيكونَ مادّة دسمة شهيّة للمناقشة خلال أيّام السّفر وهم في السيارة أو المنتزهات أو الحدائق أو قُلل الجبال.. أو حين يتحلّقون حول تلك الموائد الجميلة في المقاهي الأنيقة الهادئة التي تبعث على الانشراح والرّضا والانسجام مع قوانين الطّبيعة، وهي طريقة ماتعة مفيدة مجرّبة..
أمّا الذين ألِفُوا الخمولَ والكسلَ فسيقولون: نحن نريد السّفر ونقصد إليه من أجل التّرويح والاستراحة والبعد عن كلّ ما يمتّ للقراءة بهاجس.. فهؤلاء لا حديث لي معهم ولا شأن لي بهم ولا أحبّ أن أوجّه كلامي إليهم، كما أكره أن أكون ثقيلا على أنظارهم وأسماعهم.. وإنّما أخاطبُ من كان عاشقًا مثلي للقراءة، أو شبهَ عاشق، أو في بداية عشقه لها، مسرفًا في معانقة الكتب وسبر أغوار كنوزها، والحديث عنها الذي لا يُملّ، ولا ينبغي أن يُملّ حتّى ولو كان في أحلك ظروفه، وسواد أيامه. وكما قيلَ: كلّما تعاظَمَت الهِمَمُ تصاغرت الجُثَثُ.
وقالوا: لا نُزهة ألذّ من النّظر في عُقول الرّجال. وقالوا: الكتبُ بساتينُ العُقلاء.. وقالوا: روضة العلم أزينُ من روضة الرّياحين..
حُسن الإصغاء
قال الدّكتور طهَ حُسين في سيرته الذّاتية (الأيّام ج1 ص24):
…وانصرافُه هذا عن العبثِ حَبَّبَ إليه لونًا من ألوانِ اللّهو، هو الاستماعُ إلى القَصَص والأحاديثِ، فكان أحبُّ شيء إليهِ أن يسمعَ إنشادَ الشّاعر، أو حديث الرّجال إلى أبيه والنّساء إلى أمّه، ومن هنا تعلّمَ حسنَ الاستماع!
قلتُ: وحسن الاستماع من الأخلاق الرّفيعة التي يتحلّى بها من كان له نصيب من علم، أو حظّ من أدب.. وقد قالوا: ومن دقَائق الأخلاق فنُّ الإصغَاء!
قالَ عطاءُ بنُ أبي رباح: إنَّ الرَّجلَ ليحدّثُني بالحديثِ؛ فأنصتُ له كأنّي لم أسمعْه وقد سمعته قبلَ أن يُولدَ!
وقالَ سُفيان الثّوري: إنَّ الرَّجلَ ليحدّثُني بالحديثِ قد سمعته أنا قبلَ أن تلدَه أمّه؛ فيحملني حُسن الأدب أن أسمعه منه.
وقال أبو تمّام:
وتراه يصغي للحديث بسمعه… وبقلبه ولعلّه أدرى به!
لابد للأديب من اختبار الحياة.
– عندما انتهى الشّاعرُ الإنجليزي المعاصر (ديلن توماس) من حديث له عن الشّعر في إحدى القاعات في الولايات المتحدة، قامت فتاة جميلة من بين الجمهور وسألته: أريدُ أن أن أصير شاعرةً، فهلاّ أخبرتني ما يجب أن أفعل؟
فرفع رأسه من بين أوراقه، ثمّ قال: اذهبي وصيري عاهِرةً!
فهبطت الفتاةُ خائبةً في مقعدها، وخيّم على القاعة سكون عميق.
يقول الكاتب والنّاقد الفحل جبرا ابراهيم جبرا معلّقا على هذه القصّة كما في كتابه الرائع الذي صحبته في سفري (أقنعة الحقيقة وأقنعة الخيال ص:28.29):
لعلّ هذا الشّاعرَ السّريالي أرادَ أن يصدمَ مُستمعيه، لأنّه ككثير من رفقته يجد متعةً في صدم المستمعين. لكنّه في الواقع عبّر عن مبدأ أولي في قول الشّعر، فوضعه في هذه العبارة الجارحة ليؤكّد معناها.
فقد أرادَ أن يقولَ: اذهبي واختلِطي بالنّاس. اعرفي البشرَ في ساعات ضَعفهم، استشعري شهواتهم، المسي حقارتهم، تحسّسي مخاوفهم، روزي قروشهم، اخترقي رياءَهم، استمعي إلى قهقهاتهم، بلّلِي وجهك بدموعهم، افهمي شتائمَهم، استقبلي بخدّيك حرارةَ أنفاسهم، اذهبي واختبري الحياة، اختبري الحياة، اختبريها وجرّبيها تقولي الشّعر.
لا يمكن لمن لم يَرْمِ نفسَه في غمرة الحياة أن يأتيَ شعرًا أو فنّا، أين يكون امرؤ القيس لولا تلك الغمرة المهددة، وأين يكون المتنبي؟ أين يكون دانتي وغوته وبايرون؟ لم يكن فنّهم إلاّ عُصارة تجربة الحياة، ونتيجة العنف والرفع والخفض التي ملأت لياليهم، فتبلورت معرفتهم للنّاس والحياة شعرًا باقيًا.
ومن يعِشْ حياة هادئة، في حماية أهله، فلا تحتكّ أكتافهم بأكتاف النّاس، ولا يتعرّض جسمه لعواصفَ حبهم وحِقدهم، لن يخلقَ شيئًا ذا بال. ولذلك تجد أنّ الذين ينبغون في الشعر والنّثر في صباهم قلائلَ جدّا، لأنّ القولَ الرّائع يُستقى من تجربة الحياة، ولابد للتّجربة من السّنين..!
من حديث النّفس
جلستُ البارحةَ إلى نفسي تحتَ ضوء القمر بعدما تقدّمَ الليل ونامتِ الحياةُ وسكنتِ الأرواح، تحدّثنا طويلا وتعاتبنا كثيرًا.. فوجدتها شديدةَ المِراسِ عَبُوسًا، وألِفَتْني ظلومًا جهولا… ومما قالته لي قبلَ انصرافي عنها واستسلامي لنوم عميق: كن حذرًا يا ربيع وأنت تروم فِطامي في هذه السّن فما هكذا توردُ الإبل يا صاح.. فرويدًا رويدًا حتى أنقادَ للحق المرّ الذي تصبو إليه والاستقامةِ الخالدة التي تنشدُها.. ولا تعجلْ عليّ فإنَّ لي من الضَّعْف الذي ورثته عن مجتمعك هذا المتهالك الأثيم ما قد علِمْتَ.. وعاملني بتدرّج وارْفُقْ بي، ولك في آيات الله في المخمورين خيرُ عِبرة حيث التّدرجُ والرّحمةُ والحكمة…وليكن منك على ذُكْرٍ حديثُ المصطفى: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلاّ شانه )… وقولُ الشاعر:
والنّفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على…حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم!
فتبّسمت ضاحكًا من قولها، راضيا عنها وعن منطقها الذي أعجزَ لساني عن الرّد والتّعليق.. ثمّ شربتُ ماءً زلالا والتحفتُ بأحلامي فوقَ سرير رغباتي وأمنياتي وآمالي التي أعيش في أحضانها منذ عقود، مردّدا: اللهمَّ أسلمتُ نفسي إليكَ ، وفوّضتُ أمري إليك، ووجّهت وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منكَ إلاّ إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيّك الذي أرسلت..!
السّي المعطي
ما زالتْ صُورَتُهُ مُنطَبِعةً في ذاكِرتِي، واضِحةً كنهارٍ إفريقيٍّ، منقوشةً كالْوَشْمِ فِي ظاهِرِ اليَدِ، أحفظه عن ظهر قلب، والحِفظُ في الصغر كالنّقش على الحجر، ولا أظننِي سأنساهُ مهما بلغَ بيَ الْكِبَرُ، وكيفَ أنسى من كانَ بيتُهُ لصيقَ بيتِنا، نفتحُ أعيُننا عليه صباحَ مساء؟!
إنهُ (السي المعطي) الذي سحقتْه الثمانونَ سنة القابع تحت رحمتها، الذي هدَمَتْهُ الشيخوخةُ، وهزمتْهُ الأيامُ والشهورُ… لهُ سَحْنةٌ كالحةٌ مسَخها الفقرُ والإهمالُ، وصلعةٌ كمرآةٍ صَدِئَةٍ تلُفُّها عِمامةٌ مُتآكِلةٌ، مُثقلةٌ بعَرَقِ السنين والأعوامِ، ولهُ عينانِ غارِقتانِ حَمراوانِ فيهما حُزن دائم، وهمٌّ سَرْمَدِي، وأنفه الأفطسُ تُطِلُّ منه بعضُ الشعيرات الحادة كَشَوكِ القتاد، كان أدْردَ، وكُلما غفا غفْوَتَه المعهودةَ أمامَ بابِ دارهِ، بدا فمُه المفتوحُ كمغارةٍ من مغاراتِ جبالِ أُوشْراحْ، وجلابيبُهُ وأطمارُه الباليةُ كلها غرابيبُ سُود، يَجلِسُ مُتَّكِئًا -في أغلبِ الأحيان- على فَرْوةِ خَروف قاتِمة اللون، رائحتُها تزكمُ الأنوف، غارقًا في الصمتِ والجمود، مدفونًا في تقلبات الأنواء والزمن، وحاقدًا على الحياة والناس أجمعين، يتركُ بابَه دائمًا مُنْفَرِجًا، يُقَشرُنا بنظراتِه العابِسَةِ، يتحينُ الفرصةَ لينقضَّ على أحدِنا، لم أرَهُ قطُّ مُبتسمًا في وجهِ أحد، اللهمَّ إلا تلك الابتسامة المغتصبة التي يردُّ بها السلام على كبار السن من أمثاله، كان يُكثر من شَتْمنا ولعنِنا؛ لأننا كنا نحولُ بينه وبين هدوئِه ونومِه وراحتِه بسبب ضجيجنا ولعبنا المستميت الدائم، وكنا نبالغُ في كُرهه، ونكرِّسُ بغضَنا له بلا رفق ولا هوادة؛ لأنه هو الآخر كان يحولُ بيننا وبين مُتْعَتِنا في اللعب بالقرب من بيوتِنا وأمهاتِنا، وقد مزَّق كُرَتي البلاستيكية أكثر من مرة، التي كنت لا أجمعُ لها ثلاثة دراهم إلا بِشِق الأنفس، وبيدٍ تخمِشُ من يُلامسُها، كان يَصفعُنا، يَضربنا، ويأخذ بتلابيبنا الصغيرة، ومع مرور الأيام وتعاقب الليالي سلّمنا بأمر السي المعطي وكأنهُ مصيبة من مصائب مرحلتنا الطفولية، التي ينبغي الاستِسْلام لأمرها والرضا بذلك ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك…
يُتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *