من أخص خصائص العبودية الافتقار المطلق إلى الله، فهو “حقيقة العبودية ولبها” المدارج.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”.
قال السعدي رحمه الله: “يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه:
– فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
– فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم [بها]، لما استعدوا لأي عمل كان.
– فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء.
– فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
– فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
– فقراء إليه في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
– فقراء إليه في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.
فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
( وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت وجلال.
ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده]”.
وحقيقة الفقر كما يقول ابن القيم رحمه الله: “دوام الافتقار إلى الله في كل حال وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه” المدارج.
إن هذه المنزلة التي يصل إليها القلب هي سر حياته وأساس إقباله على ربه سبحانه، فالافتقار حادٍ يحدوا العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة الطاعة، ولا يتحقق ذلك إلا بأمرين متلازمين وهما:
أولا: إدراك عظمة الخالق وجبروته، فكلما كان العبد أعلم بالله وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقارا إليه وتذللا بين يديه قال تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ”.
قال الفصيل بن عياض: أعلم الناس بالله أخوفهم منه، وقال: رهبة العبد من الله على قدر علمه به.
ثانيا: إدراك ضعف المخلوق وعجزه، فمن عرف قدر نفسه وأنه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال فهو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه صرفا ولا عدلا تصاغرت نفسه وذهب كبرياؤه وذلت جوارحه وعظم افتقاره لمولاه وإلتجاؤه وتضرعه بين يديه.
قال تعالى: “فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ”.
قال ابن القيم رحمه الله: “ومن عرف قدر نفسه وحقيقتها وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونفس، وشدة حاجتها إليه، عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة نفس، وأيضا فإذا حقارتها مع عظم قدر من خالفه عظمت الجنات عنده فشمر في التخلص منها وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به” المدارج.
وليعلم أن للافتقار إلى الله تعالى جملة من العلامات منها:
أولا: غاية الذل مع غاية الحب لله، فالمؤمن يسلم نفسه لربه منكسرا بين يديه، متذللا لعظمته، مقدما حبه سبحانه وتعالى على كل حب، طمأنينة نفسه وقرة وعين سكينة فؤاده أن يُعفِّر جبهته بالأرض ويدعو ربه رغبة ورهبة.
قال ابن القيم رحمه: “إن مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلا لله وانقيادا وطاعة، ذليل لمولاه الحق، بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه” مفتاح دار السعادة.
ثانيا: التعلق بالله تعالى وبمحبوباته، فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، فيتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه والتزام مرضاته والامتثال لمحبوباته.
قال بعض الصالحين: “مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب” شذرات الذهب.
قال ابن القيم رحمه الله: “أعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله، فإنما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير لله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت” المدارج.
ثالثا: مداومة الذكر والاستغفار فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن كما قال تعالى: “الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”.
رابعا: الوجل من عدم قبول العمل فأهل الافتقار مع حرصهم على أداء العبادات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، بل يزدرون أعمالهم ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلا يخشون أن ترد أعمالهم عليهم.
خامسا: خشية الله في السر والعلن، فإن الخوف من الله من أجل صفات أهل الإيمان كما قال تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.
قال سعيد بن جبير: “إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيتك بينك وبين معصيتك فتلك الخشية” حلية الأولياء.
سادسا: تعظيم الأمر والنهي، فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبة وتذللا فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جل وعلا: “ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ”.
سابعا: سرعة التوبة بعد المعصية فإن الخطأ وزلل صفة بشرية ملازمة للإنسان كما قال عليه الصلاة والسلام: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” مسلم.
فالتوبة إلى الله من أعظم وأجل صفات أهل الإيمان قال تعالى: “وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.
وحقيقة التوبة كما يقول ابن القيم رحمه الله: “الندم على ما سلف منه في الماضي، والإقلاع عنه في الحال والعزم على ألا يعاوده في المستقبل” المدارج.