الرَّابطَة المَتينَة بين العَربيَّة والقُرآن 2/2 دة. صفية الودغيري

فضل اللِّسان المُتَّبَع على التَّابِع

إنَّ اللُّغة العربيَّة هي لغة دين هو خاتمة الأديان السَّماوية، ولغة كتاب سماوي مُتَعبَّد بتلاوته ومحفوظ خالد، إذًا لابدَّ لمن وَعَى فضلَها أن يبذُل أقصى ما يملكه للحفاظ عليها، وصَوْن كرامتها من الاسْتِخفاف والابْتِذال، وتربية العواطف بأساليبِها وآدابها، وقديما قد نوَّه بحسن الصَّنيع النَّبيل والخُلق الكريم شاعر عربي قديم فقال:

صانَ لي ذِمَّتي وأَكْرمَ وجهي … إنَّما يُكْرِمُ الكريمَ الكريمُ

فما أَحْوَج هذه اللُّغة إلى من يُكْرِم وِفادَتها، ويُحْسِن الصَّنيع إليها، ويصون ذِمَّتها ويذود عن حياضها، ويُوَحِّد المشاعر والأهداف حولها، ويحبِّبها إلى القلوب فتبلُغ منها المحبَّة الأعماق، وتَتلذَّذ في كنفها بنزاهة المنطق وبراعة اللَّفظ، واستقامة العبارة وروعة البيان، وسُموِّ الفِكْر والخيال، حتى تَكون لها السُّلطة والغَلبَة والقُوَّة، واللِّسان المُتَّبَع لا التَّابِع..

ولأنَّها لغة العقيدة والتَّشريع، والآداب والأخلاق الإسلامِيَّة، فقد رافقَت الفتوحات الإسلامِيَّة في الذُّيوع والانتشار في الأقطار، وكان يُهْتدى بأنوارها في تدوين العلوم الإسلامِيَّة، وجمع آثار العرب اللُّغَوية والفكريَّة، وتوسيع دائرة العلوم والثَّقافات الإسلامِيَّة، ليتعَرَّفوا من خلالها على تفسير نصوص الشَّريعة وتأويلِها، وتَوْثيق الرَّوابط المتينة بين أبناء الأمَّة، حتى يصيروا على قلب رجُلٍ واحد، وتَمْكينِهم من الرِّفعَة والسِّيادَة والظُّهور..

كما تُرْجِمَت الدَّواوين في عهد بني أمية بهذه اللُّغَة، وأصبحت هي لغة الإدارة كلِّها، حتى رَسَّخَت قواعد الدَّولة الإسلامِيَّة في أقطار الفُرْس والرُّوم وغيرهم، كما نُقِلَت بها علوم اليونان وغيرهم بواسطة مترجمين بارعين في عصر الدولة العَبَّاسِيَّة، ثم كتب الفلاسفة المُلِمُّون كُتبهم وأبحاثهم وتعاليقَهُم على ما كتبه الفلاسفة الأقدمون باللُّغة العربيَّة، كالفارابي، وابن رشد، وابن سينا، والغزالي والرازي وغيرهم، وكان المسلمون عموما بما فيهم هؤلاء الفلاسفة مُعْتزِّين بلغتهم ويرونها من أنبل اللُّغات، إنْ لم يروها أَفْضَلها على الإطلاق..[1].

لذا وجَب البِدار إلى الاعتناء بهذه اللُّغة، والتَّعَب في شَرْحِها وبَسْطِها، لأنَّها: “تُرْجمانُ هذه الأمَّة، المُعَبِّر عن أهداِها ومراميها بين مختلف الشُّعوب المُتَعَدِّدَة الأجناس والألوان، تجول مع القوم العرب في كلِّ ميادين الحياة، وتنقل إليهم مختلف الحضارات  والثَّقافات، ويصدر بها إنتاجهم العِلمي والأدبي في جميع الحالات، فهي لسانهم السِّياسي في هيأة الأُمَم العالمِيَّة، وبها أصل كلامهم فيما يحضرون من مؤتمرات، كلَّما اعْتَزُّوا بقومِيَّتهم كما يَعْتزُّ غيرهم من الأمم المتمدِّنَة”[2].

وذهب الإمام الشافعي إلى أنَّ الألسِنَة إذا كانت مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض “فلابدَّ أن يكون بعضهم تَبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللِّسان المُتَّبع على التَّابِع”[3]، وأنَّ أَوْلى النَّاس بالفضل في اللِّسان مَنْ لسانُه لسانُ النَّبي، ويميل إلى عدم جواز أنْ يكون أهل لسانِه أَتْباعًا لأهل لسانٍ غير لسانِه في حرف واحد، بل كلُّ لسانٍ تبَعٌ للِسانِه، وكلُّ أهل دين قبله أَتْباعُ دينِه[4] .

كما ذهب  الإمام ابن تيمية إلى كراهَة أنْ يَتعَوَّد المسلم النُّطْق بغير العربيَّة، ذلك لأنَّ: “اللِّسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللُّغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يَتمَيَّزون، ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية، التي في الصَّلاة والذِّكر، أن يدعى الله، أو يُذْكَر بغير العَربيَّة “[5] .

لهذا السَّبب نبَّه علماء الأمَّة إلى أن لا يَنْطِق المسلم بأسماء لا يعرف معناها، خشية أن تحمل معانٍ مُحَرَّمة أو لا تجوز، وفي هذا الشَّأن يقول: “وأما الخطاب بها ـ أي باللُّغة الأعجمِيَّة ـ من غير حاجة في أسماءِ النَّاس والشُّهور ـ كالتَّواريخ ونحو ذلك ـ فهو مَنْهِيٌّ عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب”[6] .

والجمهور قد ذهب إلى أن القرآن لا يقرأ بغير العَربيَّة، سواء قدر عليها أو لم يقدر، ذلك لأنَّ القرآن قرأنٌ بلَفْظِه ونَصِّه، وإنْ تُرْجِمَت أفكاره ومعانيه: “فإنَّ أفكارَه ومعانيه لا تُسمَّى قرآنا، ولا يَصِحُّ أن تكون ـ في الإسلام ـ كتابا تعَبُّدِيًّا، لأنَّ القرآن ليس قرآنًا بأفكارِه ومعانيه فقط، وإنَّما هو بالمعاني والألفاظ والأسلوب، بالنَّظْم والأفكار جميعًا، وإذا كان لدى غير المسلمين صَلواتٌ تُتْلى بغير لغة الكتاب المُقدَّس، فإنَّ الحُكْم الشَّرعي في الإسلام أنَّه  لا صلاة بغير اللَّفظ العربي للقرآن، وهكذا أَوْجَد الإسلام ارتباطًا بينه وبين اللُّغة العَربيَّة ثم فرضَه فَرْضًا..” [7] .

وقد كرَّه الإمام الشافعي على من يعرف العَربيَّة أن يُسَمِّي شيئا بالعَجمِيَّة أو غيرها، أو أن يتكلَّم بالعَربيَّة خالِطًا لها بالعَجَمِيَّة، ذلك لأنَّ اللِّسان الذي اختارَه الله عزَّ وجَلَّ هو لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمَّد صَلَّى الله عليه وسَلَّم ..

ويقول مؤكِّدًا على هذا المعنى: “ينبغي لكلِّ أحد يقدر على تعَلُّمِ اللُّغة العربيَّة أن يتعلَّمها، لأنَّها اللِّسان الأَوْلى بأن يكون مَرْغوبًا فيه، من غير أن يُحَرِّم على أحد أن ينطِق بالأَعْجَميَّة”[8] ..

ويقول في كتابه “الرسالة”: “فَعلى كلِّ مسلم أن يتعلَّم من لسان العرب ما بلغَه جهده، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذِّكر فيما افْتُرِضَ عليه من التَّكبير، وأُمِرَ به من التَّسْبيح والتَّشَهُّد، وغير ذلك .. وما ازداد من العِلم باللِّسان، الذي جعله الله لسان من ختم به نبوَّتَه، وأنزل به آخر كُتبه:  كان خيرا له . كما عليه أن يَتعلَّم الصَّلاة والذِّكر فيها، ويأتي البيت وما أُمِرَ بإتيانه، ويتوجَّه لما وُجِّهَ له، ويكون تبَعًا فيما افْتُرِضَ عليه، ونُدِبَ إليه، لا مَتْبوعًا”[9].

وذهب محقِّق كتاب “الرسالة” الشيخ أحمد محمد شاكر ـرحمه اللهـ  إلى تحليل دقيق، وشرح عميق، وتوجيه رشيد حذيق، لما سبق أن ذكره الإمام الشافعي  فقال: “في هذا معنى سياسي قومي جليل، لأنَّ الأمَّة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم، يجب عليها أن تعمل على نشر دينها ونشر لسانها، ونشر عاداتها وآدابها بين الأمم الأخرى، وهي تدعوها إلى ما جاء به نبيُّها من الهدى ودين الحق، لتجعل من هذه الأمم الإسلامِيَّة أمَّةً واحدة، دينها واحد، وقِبْلتُها واحدة، ولغتها واحدة، ومُقَوِّمات شخصيَّتها واحدة، ولتكون أمَّة وسطا، ويكونوا شُهَداء على النَّاس، فمن أراد أن يدخل في هذه العُصْبَة الإسلامِيَّة : فعليه أن يعتقد دينها، ويَتَّبِع شريعتها، ويهتدي بهديها، ويتعلَّم لغتها، ويكون في ذلك كلِّه كما قال الشافعي رضي الله عنه: “تبَعًا لا مَتْبوعًا””[10] .

————————————-

[1]   اللغة العربية والقومية العربية/ محمد الطنجي: ص 26
[2]   المقال نفسه: ص 26
[3]  الرسالة / الإمام الشافعي: ص 46
[4]  المصدر نفسه : ص 46
[5]  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: 1 /  462
[6]  المصدر نفسه: 1 /  462 ـ 463
[7]  نحو وعي لغوي/ د. مازن المبارك ـ مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1399 هـ ـ 1979م) : ص 125 ـ 126 ( بتصرف )
[8]  اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم/ لشيخ الإسلام ابن تيمية: 1 /  464
[9]  الرسالة / الإمام الشافعي ـ تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر ـ  مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ ط. الأولى (1357 هـ / 1938م) : ص 48 ـ 49
[10]  الرسالة: ص 49 ( الحاشية 2 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *