هذا المقال مقتبس من كتاب “تاريخ القراءات في المشرق والمغرب” للدكتور محمد المختار ولد اباه، وهو من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة سنة 1422ﻫ/2001م.تصرّفتُ في المقتبس منه ترتيبا وانتقاء واختصارا، وكان قصدي منه تعريف عموم المغاربة، في هذا المنبر المشهود باستقامته، بجهود سلفهم في العناية بالقراءات القرآنية، لعل آفاق البحث في هذا المجال تزداد انفتاحا فيكون للخلف فضل كما للسّلف.
حفظ القرآن الكريم في عهد التّنزيل:
نال علم القراءات القرآنية حظّه الوافر من اهتمام العلماء المشتغلين بعلوم القرآن في مختلف عصور الإسلام؛ فهو أكثر ارتباطا وأشدّ وثوقا بكتاب الله عزّ وجلّ، ولا تستقيم تلاوة من غير الانضباط لقواعد القراءة الصّحيحة السّليمة الثّابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بُذلت جهود مباركة من العلماء شرقا وغربا تُنهض هذا العلم الشّرعيّ وتُنضجه، فنُشر بعضها وحُقّق، وما زال بعضها ينتظر، لكن آفاق البحث فيه مازالت واعدة تنتظر فرسانا ينطلقون به فيؤرخون له منذ ظهوره إلى أن استوى على سوقه، كما أنّ كثرة تآليفه وتشعّب اتجاهاته واتّساع امتداداته تحتاج إلى التّصنيف والتّبويب والشّرح والتّعقيب، بل واستلزم الأمر تجديد النّظر في مسائل منه وقع الاختلاف حولها، على ضوء النّظرة الشّمولية لما توفّر من معطيات تمّ تجميعها في هذا المجال.
وبخصوص تقسيم مدارس القراءات إلى مشرقية ومغربية، فهو إنّما يعبّر عن مظهر التّنوّع والثّراء والتّكامل بين جهود المغاربة والمشارقة في خدمة كتاب الله المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقّى الوحي من ربّه عزّ وجلّ بواسطة جبريل عليه السّلام، وكان حريصا كلّ الحرص على حفظه فطمأنه بقوله سبحانه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة:16-18). وتأكيد على هذا الحفظ الإلهيّ ظلّ جبريل، أمين الوحي، يتردّد على نبيّه أيّام اعتكافه في رمضان يدارسه القرآن مرّة واحدة ومرّتين قبيل وفاته من أجل التذّكير والتّثبيت.
أمّا الصّحابة فاستشعروا عظم الأمر فحفظوه في الصّدور ودوّنوه فيما أتيح لهم من وسائل الكتابة كالعظام والجلود؛ فظهر منهم الحفّاظ، وبرز منهم الخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود(ت32ﻫ)، وزيد بن ثابت(ت45ﻫ)،وأبيّ بن كعب(ت30ﻫ)، وأبو الدّرداء(ت32ﻫ) وغيرهم. واقتضى واقع موت كثير منهم في معركة اليمامة مبادرة الخليفة أبي بكر بإيعاز من عمر رضي الله عنهما، لجمع القرآن كلّه من صدور الرّجال إلى صحائف مكتوبة حفظا له.
وجاء عهد عثمان بن عفّان(ت35ﻫ)، وأشار عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن يدرأ الشّقاق الذي بدت بواكره بين المسلمين لتعدّد لغاتهم وحداثة عهد كثير منهم بالدّين؛ فقرّر أن يجمع النّاس على مصحف واحد. وتحقّق المطلوب بأن نُسخ مصحف اللجنة المكوّنة من زيد بن ثابت رئيسا وثلاثة من فصحاء قريش، بقصد ترجيح الحرف القرشي عند الاختلاف في كتابة اللفظ القرآني. وهؤلاء هم: عبد الله بن الزّبير(ت73ﻫ)، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام(ت43ﻫ)، وسعيد بن العاص(ت58ﻫ). وكانت عمدتهم في العمل هي صحائف أبي بكر(ت13ﻫ) لمّا تسلّموها من أمّ المؤمنين حفصة(ت45ﻫ) رضي الله عنهم جميعا. وبعث عثمان بالنّسخ إلى حواضر الدولة وأمر بإحراق ما سواها.
بعد هذا الإنجاز صار الرسم العثماني شرطا من شروط صحة النصّ لأنّ مضمونه كان محلّ إجماع من الأمّة، وما خالفه أدخله العلماء في باب القراءات الشّاذة.