إن الدول التي تروم الهيمنة على الكون، لم تكتف بوضع مخططات يكون منفذها فقط: العسكري الشرس، أو الاقتصادي الحاذق، ولا السياسي الماكر، بل أضافت إلى ترسانتها رجالا يستطيعون أن يديروا القلوب والعقول والأجساد لصالح أفكار الساسة الذين تجمعهم بهم المصلحة ويوحدهم الهدف.
هؤلاء هم الإعلاميون، وللأسف نجد أن المهيمنين منهم على وسائل الإعلام ماهرين في براجماتيتهم، حيث لا مناص من القول الآن بتعذر إعلام خال من البراجماتية، إلا نزر قليل منهم استطاعوا أن يتحرروا من هيمنة الأخطبوب البراجماتي!!
إن نشأة الإعلام في كثير من البلدان الإسلامية كانت على أيدي المحتل الغربي الذي كان الغرض الأول منها هو استمرارية الاحتلال، وترسيخ سيطرته، وسطوه، فالهدف من هذا الإعلام الهجين هو تمزيق وحدة الأمة وإفساد أخلاقها، وإهدار دينها، وتشتيت هويتها، وتمريغ كرامتها بالتراب.
فإعلامنا الشيزوفريني لا هدف له ولا غاية سوى تحقيق الربح ولو على حساب مستقبل البلاد ودين العباد، ومع هذا يتشدق الكُل بقيم المواطنة واحترام آداب المهنة، إنه إعلام منفصم الشخصية تتجاذبه “المادية، والتطورية، والجنسانية، والأنسنة، والحرية المتفلتة، وحقوق الإنسان المتناقضة مع حقوق الله سبحانه، والعنصرية، والفردية…”، إعلام ضائع بين هذه العناصر التي أفرزتها العلمانية لتحقق السعادة للإنسان في هذه الحياة الدنيا دون أي اعتبار لليوم الآخِر، أو ارتباط بالخالق، و”السعادة المقصودة هنا هي أقصى قدر ممكن من اللذة والمتعة”، وإن كان ثمنها الكفر والردة وسخط الله سبحانه.
فالبرجماتية هي خلاصة مكثفة للفلسفات المادية الرأسمالية الغربية فإذا كانت البراجماتية “تمثل روحية النظام الرأسمالي برمته، وهي تعني فيما تعنيه “المصلحية” البحتة، و”النفعية” الذاتية المجردة، بعد التطويرات والتحويرات التي دخلت عليها بالتعاقب منذ صاغها واخترع اسمها لأول مرة الفيلسوف الأميركي “تشارلز بيرس” (1839- 1914) كمنهج للتفكير” فهي تدعو إلى الذرائعية، وتمييع المفاهيم، وتقديس الواقعية، وتسويغ الوسائل للوصول إلى الغايات العملية.
فهذا المفهوم البراجماتي هو الذي يفسر لنا بعض الظواهر العَلمانية الشاذة في إعلامنا كما في مقال “لا للصليب وخا فالكرة” (نشيان العدد 131) فهم فسروا الأمر على أن الفريق الإسباني إنما هدفه “هدف تجاري محض” أي: غائي نفعي مصلحي، ولا ينظرون إلى حكم الشرع أو المآل الأخروي لمرتكب هذا الفعل من المسلمين، واستغربوا من فعل المملكة العربية السعودية الموافق لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي: “كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب، إلا قضبه”، وهو فعل عيسى عليه السلام كما قال عليه الصلاة والسلام: “ينزل ابن مريم حكما مقسطا يكسر الصليب..” وقال عدي بن حاتم الطائي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: “يا عدي اطرح عنك هذا الوثن”…
وكذلك ما يقومون به من إشهار للبنوك والشركات الربوية هدفه نفعي مصلحي دنيوي، لا ينظرون فيه إلى حكم الشارع ولا المآل الأخروي بل إن صدق قضية ما: هو في كونها مفيدة للناس كما يعتقد الإعلاميون البرجماتيون!!
وإشهارهم للعازل الطبي ودعوتهم لتمكين المومسات من التغطية الصحية الدورية للحفاظ على سلامتهن وسلامة زبنائهن يدخل كذلك تحت النظرة البرجماتية لمحاربة السيدا التي لا تنظر إلا إلى اللذة والمنفعة الدنيوية وتسويغ الوسائل للوصول إلى الغايات العملية، متجاهلين العلاج الشرعي -الوعظ والإرشاد وتسهيل الزواج ثم إقامة الحدود-..
واستغلالهم للمرأة الذي بلغ مداه في البشاعة والخسة والانحطاط حتى أصبحت “المرأة محكومة بالانصياع لقانون السوق الذي يحكم عليها بتقديم نفسها كسلعة، ومحاولة تثمين هذه السلعة بكافة الوسائل التي توفر لها قيمة تبادلية مقبولة، وذلك عبر استنزاف إنسانيتها التي يتم هدرها قبل دخولها إلى هذا السوق”.
فمتى نرى إعلاما في بلادنا يخاطب عقول قرائه ومستهلكيه بدل مداعبة شهواتهم بالصور الفاضحة والمواضيع الجنسية الوضيعة استدرارا لدراهمهم حتى تستمر منابر الإعلام الخربة في الصمود، ومتى يكف الإعلام في بلاد مسلمة كالمغرب من التنكر للجانب الغيبي الأخروي الذي يشكل الحيِّز الأكبر من ديننا الإسلامي الحنيف ورسالته القرآنية.