ثالثا: نقد موقف ابن رشد من الهداية والضلال:
وأما تأويله لتلك الآية فهو غير صحيح، لأنه يتعارض مع الشرع والعقل والواقع؛ فأما شرعا فإن الله تعالى أخبرنا أنه خلق الإنسان مجبولا على الشر والخير معا، ولم يجعله كله خيرا، ولا كله شرا، وإنما ركّب فيه الخير والشر وحمّله الأمانة، قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) سورة الشمس: 7-10، و(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) سورة البلد: 10، و(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) الكهف: 29، ومن ذلك أيضا قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصراه أو يمجسانه). فالإنسان يُولد وله استعداد للخير والشر، وللهداية والضلال.
وأما واقعا فالمُشاهد من حياة الناس واقعا وتاريخا، يدل على أن الإنسان مجبول على الخير والشر معا، وتُساهم التربية بدور كبير في توجيه ذلك حسب المجتمع الذي يعيش فيه. وكل الناس يجتمع فيهم الخير والشر، مع اختلاف نسبة كل منهما في الفرد الواحد، فقد يغلب الخير، وقد يغلب الشر. وكم من إنسان عاش معظم حياته ضالا شريرا، ثم تاب في آخر حياته وأصبح مؤمنا تقيا خيّرا. وقد يحدث عكس ذلك في بعض الأفراد. وكم من أمة أمضت حياتها على الكفر، وأخرى أمضت حياتها على الإيمان، وأخرى غيّرت مسارها من الكفر إلى الإيمان. فكل أمة- أفرادا وجماعات- لها الإرادة أن تتحكم في مسارها بين الكفر والإيمان وبين الهداية والضلال، الأمر الذي يعني أن ما ذهب إليه ابن رشد هو رأي غير صحيح.
وأما عقلا فإن قوله هو جبرية مكشوفة بلا قناع، واتهام لله تعالى بالظلم، نعم إن الله تعالى فعّال لما يريد لكنه سبحانه أخبرنا أنه لا يظلم أحدا، فليس من العدل أصلا أن يخلق الله تعالى قوما شريرين بطباعهم من دون سبب، ويجعل آخرين خيرين بطباعهم من دون سبب أيضا، فهذا يتناقض مع العدل الإلهي، ولا هو من الحكمة ولا من الرحمة في شيء، ولهذا قال الله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) سورة الكهف: 49، وهل يُوجد ظلم أكثر مما زعمه ابن رشد من أن الله خلق أناسا شريرين بطباعهم وأدخلهم النار من دون ذنب منهم ولا جريرة؟!.
وحتى الآية التي استدل بها فيما قاله، فلو تدبرناها –بمعزل عن الآيات الأخرى-، فهي أيضا لا تدل على ما ذهب إليه. فهي تقول: (فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، فيُمكننا فهمها على وجهين، أولهما إن الله تعالى هو الذي شاء أن يضل إنسانا ما بسبب كفره وانحرافه. وهو الذي شاء أن يهدي إنسانا ما لإيمانه وصلاحه. وثانيهما إن الله هو الذي يضل العبد الذي شاء هو بنفسه أن يُضله الله لانحرافه وكفره. وأن الله هو الذي يهدي العبد الذي شاء هو بنفسه أن يهديه الله لإيمانه وصلاحه.
وثالثا إنه -أي ابن رشد- أوّل قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا) سورة السجدة: 13، بأن معناه: لو شاء الله أن لا يخلق خلقا مهيئين أن يُعرض لهم الضلال إما من قبل طباعهم، وإما من قبل الأسباب التي من خارج … ونظرا لكون الطباع مُختلفة كانت الآيات مُضلة لقوم وهادية لقوم، وليس المقصود أن هذه الآيات قُصد بها الإضلال.
وتأويله هذا لا يصح، وقد بناه على تأويله السابق، وهذه الآية لم تنص على أنه تعالى خلق خلقا مُهيئين للهداية، وآخرين مُهيئين للضلال، لأن الشرع نص صراحة على أن الإنسان مُكلف ومُبتلى على أساس أنه مجبول على الخير والشر، وقابل للهداية والضلال، وهو المسؤول عن نفسه. لكن ابن رشد يزعم أن الناس ليسوا كذلك، وإنما هم صنفان: صنف مهيء للهداية ومجبول عليها، وصنف مُهيء للضلال ومجبول عليه أيضا. وهذا فهم مخالف للشرع والعقل والواقع، وقد سبقت مناقشته وإظهار بطلانه.
وأما الآية التي ذكرها فمعناها -والله أعلم- أنها أشارت إلى أمر فات ابن رشد، أو لم يرد أن ينتبه إليه، وهو أنها تعرّضت لمسألة الهداية والضلال على مستوى الإرادة الإلهية المطلقة من حيث الإمكان، فالله تعالى بما أنه فعال لما يريد، وعلى كل شيء قدير، ويفعل ما يشاء ويختار، فإن الكفر والضلال الموجودان في العالم ليسا خارجين عن إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، بل هما موجودان بإرادته ومشيئته، وحكمته وعدله، فلو أراد أن يجعل الناس كلهم كفارا لكانوا كذلك، ولو أراد أن يجعلهم كلهم مؤمنين لفعل ذلك، لكنه سبحانه لم يرد ذلك، وأراد أن يخلق الإنسان مجبولا على الخير والشر، وأعطاه حرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وحمّله أمانة العبودية
، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار.