نعم هناك أخطاء وخلل ومفاسد، ونحن متفقون على محاربة الفساد، ولكن لا يجوز أن يتخذ هذا ذريعة لتمزيق الدولة المغربية العريقة والتفريق بين شعبها الذي أنعم الله عليه بالأمن والاستقرار، ولا يجوز الخروج عن الجماعة وبث بذور التفرقة بين أفراد الأمة الواحدة كما لا يجوز الخروج عن طاعة السلطان، يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: “وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فحبُّ صلاحهم، ورشدهم، وعدلهم، وحبّ اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحبّ إعزازهم في طاعة الله عز وجل، والدعاء لهم بالتوفيق، وحثُّ الأغيار على ذلك” (جامع العلوم والحكم 1/222).
لقد أذهلني إعلان معلق على باب أكبر مساجد الناظور بـ”أولاد ابراهيم” لجمعية “أمزيان” بالناظور وجمعية “تاويزا” بسلوان، يتضمن دعوة لحضور يوم دراسي تحت شعار “الحكم الذاتي بالريف.. أية إستراتيجية؟” يوم السبت 25 أكتوبر 2008 على الساعة الثالثة بعد الزوال، بقاعة غرفة التجارة بالناظور.
فتعجبت لهذه الجرأة على فتح أبواب أخرى من الفتن والشر والتمزق على هذه الأمة، وقررت الحضور لأجل النصيحة، استمعنا إلى أربع مداخلات تصب كلها حول اللغة الأمازيغية والحكم الذاتي للريف.
شبهة أن الأمازيغية هي أصل الارتباط بين الناس في الريف
وكان مما قرره أول المشاركين في هذه العروض: أن اللغة الأمازيغية هي “إزوران” يعني أساس وأصل الارتباط بين الناس في الريف.
قلت في مداخلتي: ليس لدينا أي مشكل بين العربية والريفية الأمازيغية، فنحن نتعامل مع كل لغة بقدر حاجتنا إليها، فلا نمانع استعمال (الريفية) في بيوتنا مع أبنائنا وفي مجالات أخرى.
واللغة العربية هي لغة القرآن كتاب رب العالمين ورسالته إلى الناس أجمعين، فكم تكون الخسارة فادحة بإقصاء لغة القرآن؟
وقوله: “(الأمازيغية إزورات) التجمع بين الناس -أي أساس الارتباط بينهم-“، ليس صحيحا إذا كان المتدخل يقصد أساس الارتباط في المجتمع الإنساني الراقي المتحضر.
فقد أثبت “جوليان هيكسلي” من علماء الدروينية الحديثة “أن وشيجة التجمع وآصرتهم في المجتمع الإنساني الذي يصل إلى قمة الحضارة والرقي هي العقيدة، لأنها تمثل أرفع خصائص الإنسان التي تفرق بينه وبين البهيمة، لأنها تتعلق بالخاصية الفريدة فيه وهي الخاصية الروحية التي بها صار إنسانا واستحق التكريم من رب السماء، ومن ثم ينبغي أن تكون هذه العقيدة هي آصرة التجمع في المجتمع الإنساني حتى تتميز الأسرة الإنسانية الراقية في علاقتها عن البهيمة، من مثل الأرض والمرعى والحدود والمصالح التي تمثل خواص الحظيرة” أنظر كتاب (أضواء الهجرة) لتوفيق محمد سبع.
فارتباط الناس على أساس اللغة أو الجنس أو الأرض أو العنصرية القبلية لا يحقق لهم تلك العلاقة الإنسانية الرفيعة حتى يرتبط بأشرف وأرفع ما وهبهم الخالق سبحانه، وهو الجانب الروحي والخاصية الروحية التي تفرق بينهم وبين البهيمة، برباط العقيدة التي تمثل أرفع خصائص الإنسان -كما أثبت العلماء ذلك-.
المحور الثاني المتعلق بالحكم الذاتي بالريف
وإن تعجب فاعجب من هؤلاء الذين لا يعاكسون مسيرة أمتهم نحو النهوض بمجتمع متماسك قوي فقط، ولكن يعاكسون مسيرة الإنسانية كافة في كل قارات الدنيا -إلا من شذ- نحو التكتلات حيث الجهود على قدم وساق من أجل توحيد شعوبهم ودولهم لبناء قوتها ومجدها، بينما يسعى هؤلاء في تقطيع أوصال أمتهم.
إن هذا لشيء عجيب حقا، ثم أعجب أيضا من التعامي والتصام مما يحدث حولنا لدول أمتنا، دولة بعد دولة من إزالتها من خريطة العالم ومن التقتيل فيها والتشريد والتعذيب والتحريق لشعوبها وخيراتها، بسبب التفرقة العنصرية والدعوات إلى القومية والعصبية.
أو ليس لنا في هذه الأحداث -يامعشر الأبناء- عبرة لكل معتبر؟
إذا لم نعتبر بهذا بماذا نعتبر؟ ومتى نعتبر؟
وقد استرسل المتدخل حول قضية “الحكم الذاتي للريف” قائلا: “إن حل مشاكل الريف الذي (يحد بكذا وكذا..، شرقا وغربا وشمالا و..)، لا يمكن أن يكون إلا محليا، أي (في إطار الحكم الذاتي) لا على يد من يأتينا من الحكم المركزي”.
قلت: ما هكذا يا سعد تورد الإبل؟
ما هكذا تكون الحلول يا معشر الأبناء؟
وإنما الحلول بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وليس من الضروري أن يكون الحكم المركزي مقصيا لجهود أبناء الإقليم في النهوض ببلدهم في إطار الجماعة والتعاون.
نعم هناك أخطاء وخلل ومفاسد، ونحن متفقون على محاربة الفساد، ولكن لا يجوز أن يتخذ هذا ذريعة لتمزيق الدولة المغربية العريقة والتفريق بين شعبها الذي أنعم الله عليه بالأمن والاستقرار، ولا يجوز الخروج عن الجماعة وبث بذور التفرقة بين أفراد الأمة الواحدة كما لا يجوز الخروج عن طاعة السلطان، يقول العلامة ابن رجب رحمه الله: “وأما النصيحة لأئمة المسلمين، فحبُّ صلاحهم، ورشدهم، وعدلهم، وحبّ اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله عز وجل، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحبّ إعزازهم في طاعة الله عز وجل، والدعاء لهم بالتوفيق، وحثُّ الأغيار على ذلك” (جامع العلوم والحكم 1/222).
وعن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية” رواه مسلم في صحيحه.
وأخرج الإمام مسلم أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فموته جاهلية، ومن مات تحت راية عمية (الأمر الأعمى الذي لا يدرى وجهه)، يغضب للعصبية أو يقاتل للعصبية فموته جاهلية”.
فكل هذا البلاء وهذا الشقاء الذي مني به المسلمون خاصة قديما وحديثا والناس بعامة، سببه النزاع حول الحكم، وقد حسم الإسلام هذا الأمر، وأغلق هذا الباب من الشر المستطير لما حرَّم على أتباعه الخروج عن الحكام ومنازعتهم في حكمهم.
روى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان” متفق عليه.
قوله: “وأن لا ننازع الأمر أهله” أي لا ننازع الحكام في حكمهم، لما يجر ذلك من الفتن والتفرقة وسفك الدماء والشرور وضعف الأمة، فيسهل على الأعداء أن يتمكنوا من رقابها.
وفي الحديث: “إن السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله” (حسنه الشيخ الألباني بمجموع طرقه).
وقال الإمام الحسن البصري رحمه الله: “لولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا”.
وكان السلف الصالح كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: “لولا كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان”.
فنحن حين ندعو إلى اجتماع الأمة على ولي الأمر وطاعته وعدم الخروج عليه، فإنما نطيع الله سبحانه الذي أمرنا بذلك في القرآن والسنة، لأنه لا يستقيم أمر الناس إلا بذلك، فالطاعة والحكم في الحقيقة كله لله كما قال عز وجل: “إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ” يوسف.
فليت الناس يعون هذا، فيعودون إلى ربهم ويرضون بحكمه ليسعدوا في الدنيا والآخرة.
وخلاصة القول أنه إذا كانت دعوة التكتلات والتجمعات البشرية والتلاقي والتسامح والتعايش بين جميع بني آدم في ظلال العدل والسلام يمثل القمة في الحضارة والرقي الإنساني، فإن الدعوات الانفصالية وإقامة كيانات على أساس الأعراق واللغات والتفرقة العنصرية ليمثل منتهى التخلف.
يقول صلى الله عليه و سلم فيما أخرجه الحافظ البزار في مسنده بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه و سلم: ” كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان”.