منذ أن أطلت إشكالية العقل والنقل مع ظهور المعتزلة، والإسلام يعاني من هذه النابتة المتطفلة عليه. واليوم هناك اعتزال جديد يحمل شعار “التجديد في الفكر الديني” أو قراءة النص بلغة معاصرة، معتبرا أن الفكر “القديم” كان استجابة لعصور مضت لم تعد موجودة الآن؛ ومن ثم فهو بحاجة إلى تجديد شامل يتجاوز الشكليات والمظاهر التي افتتن بها العلماء السابقون، ناعتا الفقه الإسلامي بالجمود والتقليد واستحضار القديم والامتنان به، وحصر الدين في تقاليد القدماء، ويعلن ضرورةَ تجاوز الموروث الفقهي كله باعتبار أن التنقيب فيه لن يغني عن ضرورة إيجاد فتاوى جديدة عصرية. بل يقول بالتجديد في أصول الفقه نفسها، والدعوة إلى بناء منهج أصولي جديد للاجتهاد بعد أن صار من غير الممكن للمنهج القديم الاستجابة لبناء المجتمع المعاصر. ويطالب بإعادة النظر جملة في علوم الحديث، ويدعو إلى إعادة صياغتها مرة أخرى بعد تنقيح مناهج الجرح والتعديل وقواعد التصحيح والتضعيف.. كما يطرح فكرة إعادة صياغة الإسلام وتكييفه بحسب العادات والأعراف والسمات الخاصة بكل شعب، بحيث يصبح الإسلام نسخا متباينة بحسب طبيعة هذه الشعوب.
من هذا الزخم المتراكم من النظريات والأطروحات ظهر من يقول بجواز زواج المسلمة بالكتابي، وبتحرير المرأة من الحجاب خصوصا العاملات منهن، وبتسوية الرجل والمرأة في الميراث “فوزية العسولي نموذجا”، وأن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل تماماً، بل أحياناً تكون أفضل منه وأعلم وأقوى.. وبالمقابل يهزأ بأمور وردت في الكتاب والسنةكإقامة الحدود وتعدد الزوجات ورضاع الكبير والتداوي بأبوال الإبل..
ولست هنا بصدد الرد على هؤلاء الجناة على الإسلام وأهله فإن في ظهور بطلان ما يدعون إليه ما يغني عن كشف ضلالاته، بل الهدف المنشود مناقشة جوهر القضية فأقول: إذا كان التجديد المراد به الاجتهاد فربما يكون السيوطي أول من أطلق هذا الاستعمال، وإذا أريد به الإحياء فقد ارتبط به كما في كتاب المفكر الهندي وحيد الدين خان “تجديد علوم الدين” وقبله الكتاب الشهير “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي.
بل إن التجديد له أصل في الإسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” رواه أبوداود.
ومن ثم فإن التجديد في الإسلام يجب أن يقدم الإسلام للناس بصورة شاملة تتجاوز الأخطاء المرحلية، والضغوط المذهبية، والاتجاهات الذاتية، بعيدا عن التركيز العقلي الذي يجعل الإسلام مجرد نظرية فلسفية، وبعيدا عن التركيز الوجداني الذي يجعل الإسلام مجرد تجربة روحية شخصية سرعان ما تحفل بالبدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، إلى غير ذلك من التركيزات التي تفرض على الحقيقة الإسلامية ظلالا خارجية لا تمت إلى صبغة الله المتوازنة بصلة.
فالتجديد الديني عماده الاجتهاد، والاجتهاد مجاله ظنية النص من حيث الثبوت أو الدلالة، ويعد ما لا نص فيه من النوازل المجال الأرحب لذلك. فيكون الاجتهاد ضرورة شرعية حتى يظل هذا الدين غضا طريا مصونا من الاندراس عبر القرون، وحتى يكون له الحضور الفاعل في حياة الأمة في كل زمان ومكان، كما يكون له أيضا الصوت الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ومواجهة المزاعم والأباطيل التي تحاول النيل من الإسلام والمسلمين بالعقل والحجة المنطقية الدامغة، دون انفعال لا يثمر غير المزيد من التحامل والتعصب والافتراء.
كما أشدد على أنه لا مجال للتجديد الديني في الثوابت والأصول والقواعد الكلية، لأنها تقرر أحكاما لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تتأثر بالأعراف والتقاليد، وهي ليست مجالا للبحث والاجتهاد.كما أن للاجتهاد أهله وخاصته وهم العلماء الربانيون الذين لهم القدم الراسخة في العلم، شهد لهم بذلك القاصي والداني والمخالف قبل المؤالف.
إن البعض يخلط بين مفهوم التجديد الإسلامي المذكور وبين مفهوم التجديد الذي يتخذه العلمانيون والحداثيون شعارا، متحررين من كل قيد أو زمام، ناعتين من خالفهم أو بيَّن ضلالهم بالرجعية والظلامية وأنه لم يزل يطل برأسه ليغمسه ويغمس معه رأيه ورؤيته في بئر أفكار قديمة، وردت في كتب تراثية، هي بمثابة الشوك في ساحة العقل.
فأي عقل هذا الذي يقود صاحبه إلى الاستهزاء بكل شيء حتى أمور الغيب؟
ثم إن الشرع المنزل من عند الله ثابت في نفسه، سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه، فهو مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا، فإن العقل إذا عَلم ما هو عليه الشرع في نفسه صار عالما به، وبما تضمنه من الأمور التي يحتاج إليها في دنياه وآخرته، وانتفع بعلمه به وأعطاه ذلك صفة لم تكن له قبل ذلك، ولو لم يعلمه لكان جاهلا ناقصا.
وأخيرا أقول إن الشرع قاض والعقل شاهد ويحق للقاضي أن يسكت الشاهد متى شاء.