نظام الرهبانية

سبق أن تحدثنا في المقال السابق عن أهم الأسباب التي أدت إلى نشوء الرهبانية وتظافرت على إيجادها وتنميتها، وسنتطرق بإذن الله تعالى في هذه الحلقة لشروط الرهبانية، والنتائج الخطيرة التي أدت إليها.

يتضمن نظام الرهبانية شروطًا لا بد من تحقيقها في الراهب منها:
1- العزوبة
وهي أهم شروط الرهبانية، إذ لا معنى للرهبانية مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح عليه السلام لم يتزوج، وينسب إنجيل متى إلى المسيح قوله: (يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات، من استطاع أن يقبل فليقبل) [متى، 13/19].
على أن التنفير من المرأة -وإن كانت زوجة- واحتقار وترذيل الصلة الجنسية -وإن كانت حلالا- من أساسيات النصرانية، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول “سان بونافنتور” أحد رجال الكنيسة: (إذا رأيتم امرأة؛ فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشريًا، بل ولا كائنًا حيًا وحشيًا، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذي تسمعون هو صفير الثعبان)2.
وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان؛ فلنتصور كيف تكون الحال معهم!
2- التجرد الكامل عن الدنيا:
ويعنى ذلك: العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة، والرضا من الرزق بالكفاف، وعدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة، وإذا كانت النصرانية تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة وتعده من أولى الواجبات؛ فبديهي أن تكون معاملة الراهب أقسى وأعتى.
3- العبادة المتواصلة
يفرض نظام الحياة الرهبانية على الراهب أن يكون في حالة عبادة مستمرة يمليها عليه الأب، ولا يستطيع التردد في الطاعة، بل عليه أن يجهد نفسه ويرهقها ويكلفها ما لا تطيقه من الصلوات والصيام والتراتيل والترانيم وسائر الطقوس، وإذا سئم من ذلك أو قصر في شيء منه فإن للنظام عقوباته الرادعة..
ولنأخذ نموذجًا لذلك تعاليم القديس “كولمبان” الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا، ومن تعاليمه: (يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم وتقرأ كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد).
(ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق، وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو نسي أن يدرم3 أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني)4.
4- التعذيب الجنوني
لم يقتصر الأمر على ما ذكر، بل كما هي طبيعة البدع فقد تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم، “وروى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائمًا نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد..، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح.. وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائمًا على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جدًا أسند ظهره إلى صخرة. وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائمًا، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عامًا، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفًا: وا أسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حرامًا، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات”5.
وما من شك في أن الرهبانية ليست من فطرة الإنسان ولا من غايات وجوده، ولقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تمامًا، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق تضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بنصارى الشرق -وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكًا- إلى حد أن المستهترين من الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتادون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر، وألفوا في ذلك كتبًا منها كتاب “الديارات” المعروف لدى دارسي الأدب العربي6.
هذا بالنسبة للمترهبنين، أما الفرد النصراني فقد ضعفت ثقته بالدين، وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، أما الغيورون منهم؛ فقد اتخذوا ذلك ذريعة للانشقاق عن الكنيسة، وتكوين فرق دينية جديدة لها أديرة خاصة تبدأ أول الأمر نظيفة، لكنها لا تلبث أن تعود فتسقط فيما سقط فيه أسلافها.
هذا وقد ظلت رواسب الرهبانية متغلغلة في أعماق النفسية الأوروبية؛ حتى بعد أن فقد الدين مكانته في النفوس -لاسيما ما يتعلق بالمرأة والجنس- وكان لذلك أثره في النظريات الهدامة التي أعقبت الثورة الصناعية خاصة “الفرويدية”، كما سيأتي بإذن الله في المقالات القادمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 : فيلسوف وراهب نصراني من الطائفة الفرنسيساكتية.
2: أشعة خاصة بنور الإسلام، 29.
3: دَرَّمَ أظفارَهُ تَدْريماً: سَوَّاها بعدَ القَصِّ.
4: قصة الحضارة، 14/365.
5: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص:168.
6: كتبه أبو الحسن السابشتي، وطبع مؤخرًا بتحقيق “كوركيس عواد”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *