إبان الاحتلال الانجليزي لبلاد الهند سمع فيلسوف هندي معلم فلسفة انجليزي يتكلم عن حضارة الغرب ويتمثل لها بما وصل إليه الرجل الأبيض من خوارق صناعية استطاع أن يسخر بها المادة لصالح أغراضه. فعلق هذا الهندي على كلام هذا السيد الأبيض قائلا: “إنكم تستطيعون أن تطيروا في الهواء كالطير، وأن تسبحوا في الماء كالسمك، ولكنكم إلى الآن لا تعرفون كيف تمشون على الأرض”، والناظر إلى هذا التعليق بعين الحكمة يجده ناضحا بسخرية البسيط من المركب، وبهت الضعيف للمتجبر، ذلك أن إتقان صبغة المشي في مناكب الأرض بما يخدم قضية الوجود، وينضبط كل الانضباط مع غائية هذا الوجود وعلته، هو الحضارة بعينها، وأما ما دون ذلك فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، فالأمر لا يعدو أن يتجاوز بشرا استوطنوا مدنية فتقاطعت بجمعهم الأطماع، وقامت فيهم قيامة أسباب تلبية حاجات هذا التجمع، فتناسلت معالم القوة المتفلتة التي نعتها أهل الغبن بالنهضة، وأي نهضة هذه التي اختل فيها التوازن بين تمثلات القوة وفضيلة الأخلاق إلى حد كنا في آنه الواحد نقف مبهورين من خوارق السيد الأبيض وغزوه لأقطار السماوات والأرض، واكتشافه للعقاقير المضادة للأوبئة الفتاكة، ثم كنا نرجع البصر كرة أخرى فنجد هذا السيد الأبيض لا يمتاز في أخلاقه!!
وإذا بسلوكه لا تكاد تميزه عن طيش الغلام ونزقه، وعن شرَه الحيوان وعدوانيته، وعن قسوة الظالم وتكالبه، وقد خولت له ترسانة علوم الفيزياء والشيمياء قوة جائرة، فصرف طاقتها في ملء جنبات الأرض بالمآثم والمظالم، فاستعمل طائرته التي خلنا صانعيها فوق البشر لصبِّ العذاب وإلقاء القنابل على معشر الضعفاء، وأجساد الأبرياء الذين لا عاصم لهم من شر هذا المتجبر المتغطرس إلا رعاية الله ولطفه، وسخر قوارب صيده ورحلاته، قوارب خضعت لدروينية النشوء والارتقاء فاستحالت إلى حاملات للطائرات ترسو على موانئ المقهورين لتخييرهم بين التوقيع على صكِّ معنا لا ضدنا، أو نيل سخط راعي البقر، وبيته الوفير الذي نسميه رهبة وتجوزا منظمة الأمم المتحدة، فتراه في سبيل السطو على ثروات الآخرين وبلوغ دركة التشبع من فتات هذه الدنيا وتحقيق الامتلاء المفضي إلى البطنة المردية، قد قلّب المفاهيم وأبطن نوايا السوء، فجار وأغار واستعمر باسم الحماية والوصاية المرشدة، وإسعاف الرجل المريض، وتمدين شعوب الجنوب..
فحتى ثمرة نشئه رباها على سادية لا نظير لها، فهي إن عاشت! فلتحقيق حلم الثراء الفاحش، والاستقواء بغير حق، واستباحة أرض الخصوم وعرض المناوئين لحضارة أجدادهم ذوي العرق النقي والتاريخ الجلي.
إن هذه المدنية الحديثة لم تعش قط مفهوم الحضارة النقي، ولن تعيشه ما دام العلم في تصاعد بينما الأخلاق في خر وانحطاط، وليس الكلام رجما بالغيب، إنما مقلة المنصف لا يكلفها أمر الوقوف على صدق ما أسلفناه، ردهة ما بين انتباهة العين والتفاتتها لتقف على خبايا هذه الحياة المادية المتفسخة التي بات في حرورها كل مقذور ومحذور عنوان حداثة، ورمز أصالة، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل تعداه لتصدير علب البهيمية باسم عولمة مظاهر التحرر، فعملت هذه العلب من خلال مناديب السوء في بلادنا، فقهاء العلمانية وصناديد نظريات الإلحاد إلى إشاعة الفحشاء في بلاد المسلمين، والترويج لناشئتها الظلامية المتهتكة، ووضع العراقيل والعقبات أمام نسائم الخير، وغرس الإيمان من خلال افتعال هالة من اللغط حولها، والتأسيس بالصوت والصورة، والواضح والمرموز، لبيعة تطبيع، وعقد تطويع مع الإفادة الصقيعية الحبلى بثقافة الجحود، ومناشير الفسوق، وسمفونية المشي في مناكب الأرض على غير هدى من الله ورضاه الشرعي.
إن تجمعنا بشريا بلغ ما بلغ من أسباب القوة ومعالم التمدن، لكنه آثر أن يعيش في ظلال الأثرة المتسلطة، وفضل أن يفتعل الحروب الوضيعة ضد جنس المستضعفين، وأن يلاحق ثغور المسالمين في غيظ وجفوة، لن نحكم له بالحضارة ولو لامست عمارته عنان السحاب، وفاقت سرعة نفاثته سرعة الضوء، ووصلت علومه إلى تيسير كل عسير، ذلك أن الحضارة لا تقوم على الظلم والعدوان واسترقاق الأحرار، واستحلال كل حرام، واستمراء كل فتنة وضلالة حتى كان الإنسان كما قال فيلسوف عقدهم الاجتماعي: ذئبا لأخيه الإنسان.
وحاصل القول أننا لن نبالغ ولن نزايد إذ أقررنا أنه ليس ثمة مجتمع بلغ حد التحضر، وعاش مفهوم الحضارة ولو تجوزا سوى مجتمع الإسلام الذي أرسى قواعد صرحه صاحب الرسالة العصماء الذي بعثه ربه رحمة للعالمين ليتمم مكارم الأخلاق، وليهدم غرانيق الوثنية المقيتة، ويطفئ نار المجوسية المتربصة، ويصد عاديات الروم الضابحة، وليبني مجتمعا فاضلا قوامه الأخلاق الرفيعة، وأساس الحاكمية فيه العدل والفضل تحقيقا وتطبيقا، ونحن نسأل الذين تنكروا للأخلاق وداسوا الفضيلة من أبناء جلدتنا الذين لبّوا داعي حي على الفساد، حي على الكساد، وواجهوا بمعاول مستوردة داعي حي على الصلاح، حي على الفلاح..
كم من حالة رجم، وكم من واقعة جلد أقام حدها سوط الإسلام وسيف قضائه حتى يتم اختزال دور شريعته حصرا وقصرا في وظيفة توزيع العقوبات، وإقامة الحدود القاسية على الناس؟ ونسأل: كم من سنة احتاجها سيد الخلق عليه الصلاة والسلام ليخرج إلى الوجود ولأول مرة في تاريخ البشرية مجتمعا طوباويا اختار السمو والفضيلة، مجتمعا كانت قلاع حصونه ولا تزال أبية عصية ممتنعة على كل طامع غائر، ومستبد جائر؟ وكم في المقابل من عقود زمنية تناسلت أيامها من جيوب وعودكم الخاوية التي بعتم بها للطامحين السراب، وأحللتم قومكم بها دار البوار وبيت الذلة والمسكنة والصغار؟