في اليوم الحادي عشر من نونبر2010م ألقى وزير الأوقاف السابق: عبد الكبير العلوي المدغري محاضرة بالرباط تحت عنوان: “معالم الشخصية الدينية المغربية”. فنشرتها جريدة “المساء” في جزأين: الأول بتاريخ 26 نونبر 2010م تحت عنوان: “لا بد من حمل المغاربة بالوسائل التربوية على الرجوع إلى عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد”. ونشرت الجزء الثاني بتاريخ 3 دجنبر 2010م تحت عنوان: “أدوات المذهب الأشعري تعطي الفقيه المجتهد فرصة الاستنباط”!
ويعلم الكاتب المدغري لا شك، كيف أن عصرنا يتميز عن بقية العصور بعمليتي التفكيك والتركيب في مجالات معرفية متعددة. وذلك لوفرة ما يمكن إخضاعه للعمليتين! كما يتميز بعملية التفكيك وحدها دون أن يحمل صاحبها أية نوايا لإعادة تركيب ما تم تفكيكه! أو دون أن تعقبها قدرة المفكك على التركيب حين يحتار في كيفية إعادة كل عنصر من عناصر البنية المفككة إلى موقعه! هذا إن لم تتوفر له عناصر جديدة باستعمالها يكون قد قدم بنية محورة مخالفة للأولى التي هي أصلية وإن لم تكن أصيلة!
نقول: إن معالم جمع معلم، والمعلم “حجر ينصب في الطريق كعلامة يستدل بها على وجهة السير وقياس المسافات”. فصح الحديث هنا عن معالم المدينة والقرية والوجه. فمن معالم الرباط -كمجرد مثال- قصبة لوداية، وشالة، وصومعة حسان. مما يعني أن المغرب الديني له معالم تميزه عمن سواه!
أما الشخصية فـ”مجموعة الصفات التي تميز الشخص عن غيره”. إن الكاتب لا يتحدث عن معالم شخصية بشرية محددة معروفة، ذات جسد وروح. إنما يقصد إخبارنا عن معالم شخصية اعتبارية. هذه التي تنعت بكونها دينية، تمييزا لها عن شخصية سياسية، واجتماعية، واقتصادية.
وبما أن الدين كل لا يتجزأ، فإن الشخصية الدينية المغربية تميزها معالم متكاملة، من عرفها سهل عليه إصدار الحكم على جانبين من تديننا: جانب نظري، وجانب ممارساتي. بحيث يكون الحكم المتوقع إصداره من طرفنا غير الحكم الذي أصدره من نناقش أطروحته أو نمتحن أفكاره! حتى ولو قفز إلى الواجهة اعتراض مؤداه أن من كان وزيرا للأوقاف لما يقرب من عقدين، أدرى من غيره بموضوع محتويات محاضرته.
يعني أن كاتبنا المتخصص في الناسخ والمنسوخ، على بينة من موضوعين هامين. تحت إشرافه كانت تتم متابعتهما: الأوقاف وشؤون الإسلام! فكيف إذن ندعي أن حكمنا على الحركة الدينية ببلدنا، غير حكم مَن سهر لسنوات طوال على تسييرها وتنظيمها؟
يتحدث الكاتب عن عناصر ينتظمها التدين لدى المغاربة. أو هي بعبارة أخرى، تنظم التدين عندنا. إنها فقه مالك، وعقيدة الأشعري، وطريقة الجنيد.
يقول المدغري: “وهذه الثلاثية هي التي ترسم معالم الشخصية الدينية المغربية التي استقرت على مر القرون، والتي لخصها الناظم بقوله:
في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
وبطبيعة الحال، فإننا ونحن ننتمي إلى هذه المذاهب الثلاثة، ليس من الضروري أننا نعرفها! فمعظم المغاربة لا يعرفون عن المذهب الأشعري شيئا. كما أنهم في الغالب لا يعرفون شيئا عن الإمام الجنيد. وهم إذا عرفوا مولاي عبد السلام بن مشيش! أو سيدي بلعباس! فيعرفون أنه مزار للتبرك فقط! ولا يعرفون أنه مدرسة قائمة الذات والأركان”!!! اِنتهى كلامه.
وبما أن جل المغاربة يجهلون الثلاثية، فمن الأكيد أن صاحب المحاضرة التاريخية -كحدث عرفه الرباط في شهر نونبر من العام المنصرم- لا يدخل في خانة من يجهلونها! مما حمله -من باب الغيرة على الدين- على نفض الغبار عنها، والمطالبة بالرجوع إليها! إنما كيف يتحقق هذا الرجوع والمغاربة قد انسلخوا عنها ما عدا قلة منهم تعد على أطراف الأصابع؟
إجابة الكاتب المدغري يحملها عنوان الجزء الأول من محاضرته كما قدمتها لنا جريدة “المساء” هكذا: “لابد من حمل الأمة بالوسائل التربوية على الرجوع إلى عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد”؟؟؟ إنما ما هي هذه الوسائل التربوية المقترحة هنا من طرف الكاتب؟ وهل اقتراحه يفيد بأن الوسائل المعتمدة حتى الآن في برامج التربية الإسلامية التي يتلقاها التلاميذ من الابتدائي إلى نهاية الدراسة الثانوية لم تعد مجدية؟ فضلا عن الوسائل المعتمدة لتدريس نفس المادة بكثافة في المعاهد الدينية، وبكليات الآداب والعلوم الإنسانية؟ أم أن صاحبنا يتحدث عن وسائل تربوية أخرى يراها مجدية لحمل المغاربة بدون استثناء على العودة إلى ما سماه بالثلاثية؟ فإن كان لديه جديد في الموضوع، فمن حقنا أن نطالبه بنشره فينا كي نستفيد ونفيد. إنه في كل الأحوال دين في عنقه! ونحن ننتظر منه الوفاء به؟؟؟
فإن نحن رغبنا في توجيه أمتنا إلى الارتباط بالثلاثية المذهبية التي تحدث عنها عبد الكبير العلوي المدغري، كان علينا أن ننجز باختصار شديد ما يلي:
التعريف أولا بكل عنصر من عناصر الثلاثية -المالكية والأشعرية والجنيدية-. والرد ثانيا على سؤال فحواه: هل نحن ملزمون بالاستجابة لله وللرسول؟ أم نحن ملزمون بالاستجابة لأئمة الفقه والحديث والكلام والتفسير والتصوف؟ والاقتناع ثالثا بوجوب الاستدلال على ما لا نعرفه بمن يعرفه. ونحدد رابعا إجابة مقنعة عن الإشكال الذي طالما تم طرحه: ماذا لو تبين أن دليلنا غير ملم بما نرغب في معرفته على حقيقته لأننا نجهله؟
لا نقصد بالتحديد هنا كبار الأئمة، وإنما نقصد علماءنا وخاصة مَن قدر له منهم أن يصبح في يوم ما وزيرا للأوقاف؟ فلعدة قرون نقرأ القرآن على هيأة الاجتماع؟ وقراءته بهذه الكيفية مكروهة لدى مالك كراهة تحريم؟ إنها بدعة؟ مثلها مثل الدعاء الجماعي بعد الفراغ من الصلاة؟ فضلا عن طقوس غير مسنونة مرتبطة بالميت: قراءة القرآن أثناء دفنه. وإقامة وليمة مكلفة من أجله تسمى “عشاء الميت”. وحضور حملة القرآن في الوليمة لقراءته، ولقراءة مسمى “الفدية” في مناطق من المغرب؟ بغض النظر عن إقامة مسمى “الأربعينية” التي لا يعرفها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مالك ولا الصحابة قبله؟ ثم يقدم مبلغ مالي للقراء يناسب المقام والمقال: مقام العائلة المفجوعة! ومقال من يبيعون أدعية مستجابة وهم كاذبون!
ثم يطلب منا الحضور والإصغاء إلى المرشدين الدينيين المؤطرين حكوميا لغاية توضيح مقتضيات الثلاثية المذهبية التي يجهلونها أو يتجاهلونها -للأسف الشديد-. إنها عندهم بعض من تلك البدع التي يتحدث عنها الإمام -دون أن يضع أصبعه عليها- وهو يلقي خطبة الجمعة فيقول: “أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار” فيكون من حقنا أن نوجه له ولأمثاله هذين السؤالين: ما الأفضل في الدين: قول الرسول وفعله وتقريره؟ أم قول وفعل وتقرير غيره فيه؟
فإن كان القرآن يُقرأ جماعة قبل أن يلقي صلى الله عليه وسلم خطبة الجمعة. وكان يفتتح الدعاء الجماعي بعد الفراغ من الصلاة! فلنقل بأننا مقتدون به! أما إن كان العكس هو الصحيح، فإن كل ذي عقل، وكل ذي ضمير ديني، يعلم أننا مصرون على رفض سنته! فنكون من المستدركين عليه! وكأن لسان حالنا يقول له: نحن أعلم منك بما فيه مصلحتنا. ولا ضير إن نحن خالفناك في قضايا تتعلق بالعبادات! وحتى بالمعاملات! وحتى بالمعتقدات!
إن ممارساتنا التعبدية اعتمادا على الأمثلة التي قدمنا بعضا منها موجزين في واد! وفقه مالك أو مذهبه في واد آخر! وقواعد مذهبه راسية على كتاب الله وسنة نبيه. وإلا ما قبل به أجدادنا ولا رحبوا به. إذ إنه لا أهلا ولا سهلا ولا مرحبا بالمبتدعين والمبتدعات!
كما أن العقيدة الأشعرية تعارض الطعن في الربوبية وفي الألوهية. إنها لم تقل ببناء القبور ورفع القباب عليها، والإتيان بكل توابعها. دفعا من ديننا لدواعي الوقوع في مهواة الشرك التي ليس لها قرار؟ فالله واحد في ذاته وفي أفعاله وفي صفاته وفي أسمائه. “ليس كمثله شيء”. والقبورية توجه معتقديها إلى التجسيم الذي أقره المشبهة منذ أزمان! وأي ميل إلى التشبيه ضرب في الصميم لتنزيه الحق سبحانه! ولا أوضح في التشبيه من ادعاء الصوفية بأن العالم هو الله! وأن الله هو العالم! بل وذهبوا إلى أن كل مخلوق هو الله عز وجل في حد ذاته! كلبا كان أو حمارا أو بغلا أو بقرة؟؟
أما الجنيد الذي يدعي المغاربة التمسك بطريقته الصوفية فادعاء لا أساس له. إنه مجرد كلام لسبب غاب عن أذهان الكثيرين وفي مقدمتهم يقف الكاتب عبد الكبير المدغري؟ إنه يجهل -لا شك- أن للجنيد شخصيتين: شخصية تجنب الظهور بها من باب التقية، وذلك حتى لا يلقى نفس مصير تلميذه الحلاج؟ وشخصية يمثلها قوله: “الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام”.
فتكون القناعات النظرية والممارسات التعبدية لدى الطرقيين عندنا، أبعد ما تكون عن اقتفاء أثر الرسول أو الاقتداء به. وأبعد ما تكون عن طريقة الجنيد المعلنة. فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف “الحضرة” ولا ذكر الله بالاسم المفرد “الله الله”! ولا ذكره ب”هو هو”! ومثله الجنيد الذي لا يمثل شيخا لطريقة صوفية ينضم إليها كل من هب ودب! فأصحابه لا يتجاوزون في الغالب العشرين. ومتى اجتمعوا حوله، كان اجتماعهم للمذاكرة وللتذكير، لا لذكر الله على هيأة الاجتماع. إذ المشيخة تقتضي أن يكون المريد أو التلميذ، أو الصاحب رفقة أستاذه ومرشده، حيث يتأتى له أن يستفسره عما عنَّ له. فالجنيد يتحدث إلى أصحابه مثلا عن الصبر واليقين والمحبة والاستقامة. إلى آخر ما يحتاج إليه المقبل على ربه لنيل رضاه. وحتى يناله لا بد له من ممارسة عمليتي: التخلي والتحلي على نفسه. فالتخلي قطع الصلة بالرذائل، أو ما يسميه الغزالي بالمهلكات. والتحلي يعني تعزيز الارتباط بالفضائل، أو بما يسميه الغزالي بالمنجيات.
فأن ندعي بأن تديننا مبني على ثلاثية نجهلها، يقتضي مراجعة جدية صارمة. خاصة وأن الاتجاه إلى الممارسات الظلامية الصوفية وراءه اليوم إعلام محلي ودولي قوي، كما أن وراءه أموالا ومساعدات وتشجيعات محلية ودولية! يعني أننا أمام مخطط يدفع بنا إلى الوراء التاريخي المظلم الذي يعزز الاستكبار وأعوانه ويقويهما على الظلم والطغيان.