السلفية.. التي أصبحت فزاعة!!! الدكتور محمد وراضي

إذا لم تكن السلفية بإطلاق -كما يبدو لأي ناقد متبصر- عبارة عن تراث إنساني مشترك، تراكمت بفعل التدافع الطبيعي لتحصيل الضروري والحاجي والكمالي عبر قرون يتعذر إحصاؤها، بحيث ينتصب خلفها الأسلاف وهاماتهم مرفوعة! وبحيث يقف أمامها الأخلاف كمنارات وكمعالم مرغمين لا مختارين! إذ أنه لا وجود لبنيات ترسو على غير قواعد، ولا لأشجار ذات جودة عالية، دون أن تضرب بجذورها في التربة الملائمة. إذ ما كل تربة مهيأة لغرس أية أشجار، وصالحة لزرع أية نباتات! 

ومتى صحت هذه التوطئة المنطقية، أو لا يفرض علينا هنا تنوع السلفيات نفسه، والناس لم يعودوا منذ أزمان أمة واحدة، بل إنهم لا يزالون مختلفين؟ -وهذه طبيعتهم كبشر- وبما أن هذه النظرية بديهية وحتمية في الآن ذاته، فعن أية سلفية يتحدث السلطويون العلمانيون؟ وعن أية سلفية يتحدث من اقتفى أثرهم دارا بدار وزنقة بزنقة؟
وصفنا هؤلاء وأولئك التغريبيين بالليبرالاويين؟
أو وصفناهم بالاشتراكاويين؟
أو وصفناهم بالشيوعاويين؟ (=من لوى يلوي. ومن كوى يكوي. ومن عوى يعوي)!
أو وصفناهم حسب تعبيرهم القدحي بالإسلاماويين؟
أو وصفنا مجموعة غير هؤلاء وأولئك بالمبتدعة المنشقين عن النهج القويم؟
بينما نصف الرافضين للاندماج الهجين بالحنفاء الواعدين؟
هل نتحدث -ونحن ننتقل من العام إلى الخاص، أو من المطلق إلى المقيد- عن سلفية علمانية ذات الهوية الرومانية القديمة!
أم نتحدث عن سلفية ذات الهوية الأوربية القومية قبيل مسمى عصر النهضة وبعده؟
أم نتحدث عن السلفية الكهنوتية التي ألقت بظلامها القاتم على صدر الشعوب الغربية لقرون عدة؟
فكان أن انساقت وراء الزعامات الظلامية المدمرة، فاشترت منها صكوك الغفران لتضمن موقعها في الجنة الموعودة! وخضعت بالتالي لقيودها التي حرمتها من العزة والكرامة وحرية إبداء الرأي؟ مع الإشارة إلى أن الكهنوت لا صلة له بأية أحكام شرعية واردة في أي كتاب من الكتب السماوية!!!
أم نتحدث عن سلفية حملها معه الاستعمار الأوربي في العصر الحديث إلى البلدان التي غزاها وفرض على مواطنيها ابتلاعها كطعم مسموم يشكل أكثر من خطر على صحة العقول والنفوس؟
أو لم تكن -لمجرد التذكير- كتب القراءة على عهد احتلال بلدنا تحمل عناوين مثيرة حقا للانتباه على غرار: محمد يذهب إلى المدرسة؟ وعلي وفاطمة؟ وعثمان بوركابي؟
أو لم يتضح الهدف من وراء اختيار مثل هذه العناوين بعناية؟
فكان أن اندفعنا كتلاميذ، دون سن البلوغ إلى الانبهار بما كنا نتلقاه؟ وإلى السخرية اللاواعية من رموز السلفية الدينية التي أصبحت الآن فزاعة يحذر من خطرها طغاة الحكام و”بلاطجة” ومرتزقة مسخرون لتنفيذ ما يصدره إليهم متشبعون بالسلفية الدخيلة العمياء المجرمة؟ هذه التي تملي على متبنيها قتل آلاف المحتجين المطالبين بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية؟
ثم نعود فنتساءل: أو لم نكن نسخر مدفوعين مخدوعين من مسمى: “محمد” البدوي الذي يقف إلى جانب الصبار (الزعبول)، وعن يمينه نعجة، وعن يساره بضع دجاجات وديك واحد أحمر اللون؟ أما هو فشبه مصاب بالذهول في جلبابه الصوفي الذي كاد يعلو ركبتيه؟ في حين يبدو عليه العمش المفضي إلى سيلان الدمع في أكثر الأحيان؟ بينما يتدلى من أنفه المخاط كأنه مصاب بزكام دائم؟ إمعانا من المصور المأجور في تجسيد واقع طفل يحمل كل معاني التخلف والسذاجة والعوز أو الاحتياج؟ هذا في الوقت الذي يقدم نفس كتاب القراءة صورا مغايرة تماما لكل من “جاك. ومدلين. ودومنيك”! إنما في أوضاع تنبه إلى الفوارق القائمة بين المنتمين إلى مجتمع متقدم في ارتقاء سلم الحداثة، وبين المنتمين إلى مجتمع غارق في الجهل والتخلف؟
فيكون المثل السائر “التعلم في الصغر كالنقش على الحجر” قد أعطى نتائجه المخطط لها. يعني أن المتعلمين على يد “المستعمرين”، أشربت نفوسهم وعقولهم كالإسفنج ألبان حضارة الغرب من جهة، وكرها غير معلن لأسلافهم المتدينين بإخلاص من جهة ثانية. ولما لم يكن (الكره) معلنا، فلأنه لم يتجاوز بعد مجرد السخرية من البدويين على مستوى المظهر الخارجي، لكنه سوف يتحول لاحقا إلى كره معلن على المستوى المعنوي بدون ما تَفكُّر وبدون ما روية! خاصة وأن الخروج من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية، فالثانوية، فالجامعية، سوف يحمل المتعلمين على تلقي المزيد من جرعات سلفية المستعمر التي هي تراثه!
فكان أن قابلنا وتحدثنا وناقشنا من يلهجون بذكر “موليير” و”فيكتور هيجو” و”ديكارت” و”هيجل” و”جان بول سارتر” و”ماركس” و”لينين” إلى آخر لائحة المجسدين للتراث الغربي، أو لسلفيته التي وجدنا بيننا من يعتز بها أكثر مما يعتز بها الغرب نفسه؟
وإذا لم تكن للقيم الدينية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، نفس ما للقيم العلمانية لدى الغربيين، فلا بد أن يحترم التغريبيون المتعصبون المقتفون لآثارهم ما احترموه، هناك خارج تاريخ الإسلام الذي نبذوا وراءهم ظهريا جل محتوياته! أي أنهم لم يتخذوا من تراثهم الأصيل نموذجا إليه يتجهون وعليه يعتمدون لتأسيس خطابهم السياسي، كمساهمة منهم إيجابية، لأجل إعادة الروح إلى عقول وإلى نفوس شبه ميتة. فكان أن حملت حملا على استعارة روح أخرى غريبة عن جسد الأمة التي رأيناهم يتحدثون عن خصوصياتها في مناسبات سياسية جريا وراء المراكز السلطوية القيادية!
فلزم عندها أن نتوقع من أصحابها أي شيء يشعل فتيل السخرية من كل ما يمت إلى الدين بصلة! فجاءت هذه السخرية من دعاته بلهاء! -ولو أنها محمولة بما لا حد له من حقد- على لسان طاغية تونس! وطاغية دمشق! وطاغية طرابلس ليبيا! وطاغية صنعاء اليمن! وعلى لسان كل العلمانيين الذين يدركون بأن ما يحملونه منذ عقود من أيديولوجية فاشلة، انتهت بهم واقعيا إلى الأبواب المغلقة!
وبما أن المتشبعين بقيم ذاك الآخر الغريب عنا من حكام، ومن وراءهم من جلاوزة متحالفين معهم غالبا في الباطن دون الظاهر وأحيانا في الظاهر دون الباطن، من باب النفاق كما يحدث في بعض المسرحيات. كنا قد توقعنا منذ فجر استقلالنا أن نتمتع بنفس القيم التي حرمنا منها ونحن نعاني من الأصفاد ما نعانيه، نقصد القيم التي يتبجح الغرب بأنها من صنعه! وهذا منه مجرد افتراء! لكننا -كدول عربية بالتحديد- وجدنا أنفسنا بعد انعتاقنا من ربقة المحتل محرومين من سُباعي الفكر السياسي السلفي: الأخوة، والمساواة، والعدل، والحرية، والمحبة، والتعاضد والتكافل الاجتماعي! وكأننا تحررنا من استعمار لنقع في قبضة استعمار آخر، دون أن نبالغ أو نفتري كذبا على أي كان، وعلى أية جهة. وإلا فما الذي تطالب به الشعوب الغاضبة في أكثر من عاصمة عربية؟
نعم، هناك السماح في بلد مثل بلدنا لليبرالية، لكنها في الواقع ليبرالاوية فاجرة فاسقة (من لوى يلوي)! شاهدناها ونشاهدها في الاقتصاد والمال والتعليم على العموم. تعلق الأمر بشقها المادي، أو تعلق بشقها المعنوي! إلى حد أصبحت عنده بعض الجرائد متخصصة في تقديم نماذج من الدعارة معززة بالصور الفاضحة أو المفضوحة!
أما الفساد الإداري الذي يمكن ضبطه في الارتشاء وسرقة المال العام وابتزاز المواطنين (= أكل أموالهم بالباطل) فحدث ولا حرج! حتى الذين طالما تبجحوا بالاشتراكية، ضبطت منهم أعداد وهي تخون أمانة الوظيفة العمومية، داخل وخارج أكثر من مؤسسة حكومية! ثم سمحت لهم نفوسهم -وهم منهمكون في تدمير الاقتصاد الوطني والإساءة إلى الأمة- بالتحذير من خطر السلفية والسلفيين! وكأن الحريصين المخلصين على سيادة الاستقامة والعدل في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والتربوي؛ قد تحولوا بين عشية وضحاها، وبجرة قلم إلى لصوص محترفين؟ والحال أنهم حتى الآن خارج المؤسسات التي تعنى باتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية لفائدة الأمة المغربية الإسلامية!
يتبع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *