من آكد قواعد الدراسات الاجتماعية والفكرية أن كثرة التنظيرات والحوارات الورقية تضيع فرصة ملامسة الحقائق؛ عن طريق الوقوف على الظواهر الاجتماعية والثقافية والفكرية في واقع الناس وحياتهم.
ولعل كثيرا من دراسات ومقالات كثير من الدارسين والكتاب؛ مفكرين واجتماعيين أصابها شيء من ذلك والمتتبع لذلك ير العجب!
إن الحديث عن الحرية في مقالات تنظيرية يغلب عليها جانب النقل والتاريخ والتأصيلات الفكرية والمدافعة الإيديولوجية لا يوفي حقها بقدر ما تفعله نظرة فاحصة لما يجري على ألسنة الناس مما يعبر عن ثقافتهم ونظرتهم البسيطة للحرية؛ والتي يفسرونها تلقائيا مدفوعين بأنماط عيش يومية؛ وتراكمات ثقافية تقليدية؛ ومواقف بدائية من قضاياهم اليومية التي تحكمها لقمة العيش؛ وكثير من الشبكات الاجتماعية بدءا بالوالدين؛ مرورا بالجيران وزملاء العمل والأولاد؛ والمعارف عامة.
يعجبني هنا أن أبدأ بوضع القارئ والقارئة أمام أول نظرية مستقرة عند كثير من الناس يمكنك تلمسها في قول بعضهم لمن ينكر عليه كثرة النظر إليه: (العين ما عليها حكام).
ولعل مثل هذه الكلمة تختصر وتختزل كثيرا مما قد يراق من مداد على صفحات كتب ومجلات محكمة متخصصة.
ويكاد المرء يصدق هذا؛ لولا أنه ينتبه أن القائل يعتقدها مطلقا.. ولو في النظر إلى شيء حرم الله النظر إليه فقال: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).
وهنا تبدأ المشكلة.. وهي المصادمة الصريحة للقرآن الكريم.. وقد يصعب تصور وجود مثل هذا الفكر الشعبي في عقول بعض المرضى؛ نعم مرضى لأن هذا أمر طارئ على ثقافة بلادنا.
بل وصل الأمر بهذا الإطلاق إلى ما يجري على لسان بعضهم من قولهم: (كل واحد يدفن باه كيف بغا).
ولهذا دلالة واضحة على مستوى الحرية التي يتصورها الناس حقا لهم.. أن يدفن الولد أباه كما يريد هو.. لا كما هي عادة الشرع وقوانينه؛ ولا كما يريد أبوه نفسه في وصيته له!!
ومع الوقت تطورت العبارات ووقوعَ المسخ في التصورات؛ فصار بعض الناس يقولون: (حنا في زمن الحريات) ولنا وزارة اسمها وزارة العدل والحريات..!
فليس لأحد الحق في أن يأتي الحرية فينقصها من أطرافها..لا أحد.. ولو كان الشرع.. وحرية الإنسان تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين.. وإلى أن يكتشف الباحثون تلك الحدود سنعيش في تدافع بلا هدف.. فكل يدفع في جهة الآخر يوسع مساحة حريته على حساب حرية غيره.. ولما لا نقولها.. فنحن في زمن إمبريالية الحريات!
فالفتاة اليوم تلبس ما تشاء طالما أن عورتها المغلظة مستورة!!! ولا يهمها ما يقع للآخرين من الرجال…!
يجب أن نعترف أن الخطاب العلماني النخبوي يوازيه وجود ثقافة علمانية شعبية غير معلنة.. وهي أحد أسباب استمرار الخطاب العلماني النخبوي؛ وهو المادة الخام له.. ومن هذه الثقافة يجب البدء في المحاورة.. ولعلها أسهل من غيرها!!
إن الشاب اليوم يمشط رأسه ويرجله.. أو قل يكاد يمشطه لأن نصفه محلَّق.. أو منتصب في السماء كأنه هوائي محطات الراديو.. أو كمن تعرض لصعقة كهرباية أو وقع عينه على منظر مفزع كما يقال.. قف شعره..!
صرنا اليوم نرى ابتذالا مقصودا في استعمال مفهوم الحرية؛ فقد لطخت سمعتها بما بعد الحداثة.. والتي لا تنضبط بأي ضابط.. وليس لها مرجع ولا مركز؛ فهي حرية سائلة.. فاضت من كأس العقل… وأغرقت أو كادت المجتمعات ومنعتها أخلاقها التي تتنفسها..! ليس لها هوية.. وإلى هذا يدعو بنو علمان؛ وقد قال بعضهم في بلادنا: (لا توجد هوية ثابتة) وهذا هو فكر ما بعد الحداثة؛ لا ثبات.. ولا مركز.. والكل سائل سائر في صيرورة تاريخية…! حتى الإسلام.. إنتاج أرضي تاريخي…. سائل سائر إلى زوال..ك ذا زعم؛ وفض فوه.
تلوث هواؤنا والآن تلوثت أخلاقنا…! وكما يشتكي العالم اليوم من الاحتباس الحراري؛ فإننا نشتكي اليوم من الاحتباس الفسادي!!! وليس له مصرف ولا مضاد إلا الرجوع إلى ديننا وشرع ربنا الذي ارتضاه لنا.
صرت ترى الأبناء يعتذرون بحريتهم في الحياة كما يريدون لسوء معاملتهم لآبائهم.. وقد سبقنا الغرب إلى ذلك؛ وإنا لا قدر الله بهم لاحقون..! وأخشى ما أخشاه أن تجد أحد الكتاب العلمانيين يؤلف للمغاربة كتابا كما فعل أحد الفرنسيين حين نشر له كتاب (كيف تتخلص من والديك)؛ ورحم الله العلامة فريد الأنصاري فهو من أوقفني على هذه الكارثة القرعاء في كتابه (سيماء المرأة في الإسلام).
ومن أعجب ما ينكره الدعاة إلى الحريات العملية استنكارهم ما اعترض به أنصار الشرع من أن العري في الشوارع وشرب الخمر أمام الناس ضد حق الآخرين في عدم مشاهدة ذلك في الأماكن العامة.. واستغربوا أن يكون لهم حق.. وعجبي منهم كبير حين تراهم يستنكرون على من يفسد منظر حديقة حيهم بدعوى الحق في أن لا يفسد الآخرون مشاهد الجمال والطهارة في الشارع.. وهذا عجيب منهم؛ فإنهم إن كانوا عقلاء أصحاء أو منصفين؛ لمنعوا أيضا ظهور القاذروات من الأقوال والأفعال في الفضاء العمومي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: من ابتلي منكم بهذه القاذورات فليستتر…!
فصرت اليوم إذا رأيت شيئا من هذه القاذورات؛ ونصحت صاحبها لطمك بقوله: (ديها فراسك)..أو (ماشي سوقك)..أو(ما شي شغلك).. ومثلها كثير من بخس الكلام.
فهل يقبل علماني أن يظهر رئيس حكومتنا بقشابة صوف شفشاونية أمام سفير الولايات الأمريكية في عشاء ديبلوماسي أو في مجلس الأمن، لعله سيقول: هذا يخالف البروتوكول الديبلوماسي.. ونحن نقول في ما يفعله الناس من مخالفات شرعية: هذا مخالف للشرع.. فما الفرق!
وأعتذر للقشابة الشفشاونية.. فلست أقصد إهانتها.. فإن لي واحدة يشرفني لبسها!