الهجرة وإن بدت في ظاهرها فرارا أو انعزالا، إلا أنها في عمقها وحقيقتها استعداد للجهاد والنضال، إنها انحياز، مفاصلة مادية أو معنوية بدنية أو شعورية، نوع من الكر والفر الذي يقتضيه الصراع والمدافعة.
إن الهجرة بالمعاني التي ذكرنا قد يباشرها ويتلبس بها الفرد كما الجماعة، لأجل حفظ الدين من الضياع والتحريف والتهديد بحفظ حامله ومعتنقه، أو لأجل إقامة صرح سياسي قوي يحميه بكل أنواع القوة، كل ذلك حسب الظروف والإمكانات والمتغيرات التي تقتضيها وتفرضها الخريطة السياسية للقوى المتواجدة على الساحة والمتحكمة فيها.
فقد تسمح ظروف بنوع من أنواع الهجرة لا تسمح به ظروف أخرى، وقد يجب نوع من الهجرة في زمان أو مكان ولا يجب في غيرهما، وقد تكون المصلحة في نوع ولا تكون في آخر.
إن أول مراتب وأنواع الهجرة تلك التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، وهي الهجرة التي يحققها الفرد في نفسه وذاته بهجر المعاصي والآثام والشبهات والشهوات، تطبيقا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه”، وهي الهجرة التي يستصحبها المسلم في كل أحواله، هجرة لكل مفاسد ومزالق وانحرافات الحياة، فلا إسلام له إلا بها. فهو يعيش بجسده في الواقع لكنه يهجر قيمه ومعتقداته المنحرفة، وهي هجرة يشترك فيها سائر البشر تقريبا.
وقد يجد هذا الفرد صعوبة لممارسة دينه وقناعاته كما يعتقد، ورغم هجرانه للباطل إلا أن الباطل يلاحقه ويضيق عليه ويستفزه، وقد يصبح مهددا في حياته ووجوده، وهنا تأتي مرتبة أخرى من مراتب الهجرة الفردية، وهي انتقال من مكان إلى مكان آمن؛ حفاظا على هذا الدين بالحفاظ على حامله.
وهي الهجرة التي سجلت لنا السيرة حادثة فريدة منها، حين فر نفر من المسلمين بدينهم لبلاد الحبشة، فقد كانت هذه الهجرة بقصد حفظ أفراد معدودين.
ويسجل التاريخ أحداثا مماثلة كثيرة لهذا النوع من الهجرة، ولعل حادثة أصحاب الكهف التي رواها لنا القرآن الكريم تندرج في هذا النوع من الهجرة، الفرار بالإيمان إلى مكان تتوفر فيه الظروف لضمان عدم اندثاره، إما مجرد الفرار بعيدا عن المضطهد، أو الاحتماء وطلب اللجوء عند قوة توفر الحماية، وهو عين ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يطلب النصرة والحماية واحتضان دعوته من القبائل.
هذا النوع من الهجرة يشترك فيه كل أصحاب المبادئ والآراء والمعتقدات، وهو ما يعبر عنه في زماننا باللجوء السياسي، حيث يعتبر ذلك اللجوء انحيازا من أجل إعادة ترتيب الأوراق وتكثيف التنسيق والاتصالات وإعداد الخطط البديلة للمواجهة، وهو فوق كل ذلك اتخاذ لأسباب حفظ النفس من الهلاك.
وقد تتخذ الهجرة شكلا جماعيا، لتكوين مجتمع منغلق يحافظ على تقاليده وأعرافه، أو لتكوين قاعدة ونواة لتأسيس دولة تسعى لإيجاد مكان لها في خريطة العالم؛ ورقما صعبا ضمن معادلات القوى الدولية.
وقد كانت الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، مثالا واضحا لهذا النوع من الهجرة، حيث سعى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عمل مؤسس دؤوب في مكة المكرمة، لإنضاج الظروف وتهيئ الأرضية لإقامة موطن وكيان سياسي للجماعة المسلمة من أجل حفظ دعوتها والعيش تحت رايتها والعمل على نشرها.
فكانت تلك الهجرة درسا من دروس القيادة والإدارة والحنكة واستشراف المستقبل والصبر والمثابرة والتضحية وتأسيس الدول والأوطان. فقد سبقت الهجرة للمدينة محاولات للهجرة، هي الهجرة للحبشة والهجرة للطائف رغم أن أهدافهما مختلفة، لكنها كانت محاولات لكسر الحصار المضروب على الدعوة، بإيجاد متنفسات ومنافذ خارج دائرة نفوذ قريش.
إن هذا المثال الفريد لم يتكرر إلا في حالة الهجرة اليهودية من أجل تأسيس دولتهم العبرية خلال القرن الماضي، مع الفارق الشاسع طبعا، لكن ما يهمنا من هذا المثال، هو أن المسلمين أبدعوه ونجحوا في تنزيله وتحقيقه، وأثبت التاريخ نجاعته، فأصبح مثالا يحتذى.