كتب الله سبحانه وتعالى على هذه الأرواح، أن تسكن الأجساد يوم يأتي الملك، والنطفة مستقرة في رحم الأم، فينفخ فيها، ثم تمكث ما شاء الله لها حتى يصبح العبد خلقًا آخر، كما أخبر الله رب العالمين، ثم إذا كتب الله ساعة الفراق حضرت الملائكة كما حضرت في المرة الأولى لتنفخ في الرحم، تحضر لتأخذ الأمانة التي أودعتها في ذلك الجسد، فتكون ساعة الوفاة، وما أرَّق الصالحين وأقض مضاجع المتقين إلا ساعة الإقبال على الله -سبحانه وتعالى-، فإن العبرة بالخواتيم، ويثبت الله من شاء على طريقه المستقيم ويُبقي الله -تبارك وتعالى- من صدقت نيتهم على طريقه.
قال أهل العلم رحمهم الله: من صدق فراره إلى الله، صدق قراره مع الله، فمن صدقت توبته وإنابته إلى ربه، صدق قراره ومسيره وهديه على صراط الله حتى يلقى الله -تبارك وتعالى- هذا الهم الذي أقض مضاجع المتقين من قبل، وأرق الصالحين من عباد الله.
ولذلك سعوا أعظم ما سعوا في أن يختم الله -سبحانه وتعالى- لهم بخير، ولما كان النوم أخا الموت، كما أخبر صلى الله عليه وسلم مضت السنة الفعلية والقولية، أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا اضطجع، وأراد أن ينام، وضع يده تحت خده قائلا: “باسمك اللهم أحيا وأموت” رجاء أنه إذا قبض يقبض على اسم الله تبارك وتعالى.
وفي الخبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم جاءته ابنته فاطمة، وقد أرهقها وأتعبها كدُّها في بيتها ولم يكن لها خادم، جاءت إلى بيته تبحث عنه، تسأله خادمًا لما علمت أن سبيًا أتى، فلم تجده، فأخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ثم أخبرت أم سلمة، فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأخبرتاه بالأمر، قدم عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة، كما عند البخاري، وغيره، وهما على فراشهما، فلما هما بأن يقوما إليه، أشار إليهما أن ابقيا على مكانكما، حفظًا لعوراتهما، ثم دنا منهما صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع، فلما قصا عليه طلبهما، قال عليه الصلاة والسلام: “ألا أدلكما على خير من ذلك، إذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فذلك تمام المائة”، دلهما صلى الله عليه وسلم وقد طلبا شيئًا من متاع الدنيا، دلهما على ما ينفعهما في آخرتهما.
حتى إذا قبض العبد وقد ذكر هذه الأذكار، قبض على عمل صالح، ومن أجل ذلك خلصت نيات المؤمنين وصدقت مع ربهم، رجاء أن يقبضهم الله على نية حسنة، ومما يعين عليها الإكثار من الأعمال الصالحات، فما أكثر عبدٌ من عمل صالح إلا وتوفاه الله -سبحانه وتعالى- على ذلك العمل.
وقبل سنوات غير بعيدة، كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من العامة، يمني الجنسية لا يقرأ، فإذا دخل المسجد النبوي ورأى رجلاً خاليًا من شغل، أعطاه المصحف في يده، وقال له: اقرأ علي من كلام الله، فيمضي الرجل يقرأ، وهذا العبد الصالح الأمي يستمع، قضى أكثر عمره على هذا النحو، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يقبض روحه، وربما كان ذلك العبد صادقًا مع مولاه -والحكم على الظواهر- دخل الحرم ذات يوم وقدم المصحف لرجل جالس في الحرم، فلما أخذ ذلك القارئ يقرأ، وهذا العبد الصالح يستمع إليه، مرَّا على آية سجدة، فسجد الاثنان، ثم رفع الأول منهما، وأما ذلك العبد الصالح فقبض الله روحه وهو ساجد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه لا يحلف على الله إلا هالك، والصدق مع الله سبحانه وتعالى أعظم ما يؤتى به العبد الخاتمة الحسنة، وحسن الوفادة والإقبال على رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ينشد الخاتمة الحسنة ينبغي أن يكون سليم الصدر للمؤمنين، ليس في قلبه بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء لأحد من المؤمنين، فإن كثرة الغل والحسد والبغضاء والشحناء لعباد الله، أعظم ما يورث به سوء الخاتمة -والعياذ بالله-.
أورد ابن خلكان رحمه الله في وفيات الأعيان، في ترجمة يوسف بن أيوب الحمداني، أنه كان عبدًا صالحًا محبوبًا من الناس، فبينما هو ذات يوم في درسه، إذ قام رجل من الصالحين ظاهرًا، يقال له ابن السقاء، وكان يحفظ القرآن وعنده شيء من الفقه، فقام ذلك الرجل يسأله مسائل يريد بها أن يسيء الأمر في حلقته ويشغب عليه وجموع الناس حوله، فلما أكثر عليه قال يوسف بن أيوب لابن السقاء: اجلس فإني والله، لأشم من كلامك رائحة الكفر، وأظنك ستموت على غير ملة الإسلام.
فمضت أيام قدم فيها وفد من ملك الروم إلى الخليفة، فلما خرج الوفد عائدًا إلى القسطنطينية، تبعه ابن السقاء وذهب معه واستقر به الأمر في تلك المدينة، فما لبث فيها أيامًا حتى تنصر -والعياذ بالله- وأعجبه ما عليه النصارى من دين، وخرج من ملة الإسلام، فبقي فيها وكان يحفظ القرآن، ثم قدر لرجل من أهل بغداد أن يذهب إلى تلك البلدة لتجارة له فوجده مريضًا على دكةٍ وفي يده مروحة يذب بها الذباب عن نفسه، فقال له: يا ابن السقاء إني كنت أعهد أنك تحفظ القرآن فهل بقي من القرآن في صدرك شيء؟ قال: لا، ولا آية، إلا آية واحدة “رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ” الحجر: 2.
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخنجر ذي نصلين على يد أبي لؤلؤة المجوسي، فلما حمل رضي الله عنه وأرضاه وهو من هُو في علمه وجلاله وقدره وصحبته وفضله، فوضع على الأرض وشعر بدنو الأجل، دخل الناس من الصحابة يثنون عليه، وكان فيمن دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فلما رآه أخذ ابن عباس يثني على عمر ويذكره بنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه -وكان يعجبه كلام ابن عباس-: أعد علي ما قلت، فلما أعادها، قال: إنني مع الذي تقول: لو كان لي ملء الأرض ذهبًا لافتديت به من هول المطلع.
كل ذلك داخل في سياق ما ذكرناه من أن ما أهمّ الصالحين شيء أكثر من حسن الإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذا على حسب كل إنسان بخاصة نفسه، أما على الجانب الآخر، فإنه لن يدخل أهل الجنة الجنة، إلا إذا قامت الساعة، وحشر الأشهاد، وقام العباد لرب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا لن يكون إلا إذا أراد الله سبحانه وتعالى وسيكون كما أخبر الله.
إلا أن الله سبحانه وتعالى جعل له أشراطًا وبين له علامات.