من أسباب رواج الباطل

لرواج الباطل أسبابٌ متعددة تضمنت أساليبَ ماكرةً وطرقًا ملتويةً يستعملها المبطلون أو من تأثر بصنيعهم، وقد أفصح عنها الإمام ابن القيِّم رحمه الله، حيث قال:
“السبب الأوَّل: أن يأتيَ به صاحبه مموَّهًا مزخرف الألفاظ ملفَّق المعاني مكسوًّا حلَّةَ الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه وتبادر إلى اعتقاده وتقليده، ويكون حاله في ذلك حالَ من يعرض سلعةً مموَّهةً مغشوشةً على من لا بصيرةَ له بباطنها وحقيقتها فيحسِّنها في عينه ويحبِّبها إلى نفسه، وهذا الذي يعتمده كلُّ من أراد ترويجَ باطلٍ، فإنه لا يتمُّ له ذلك إلاَّ بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهلٍ بحقيقته.
قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعضٍ من القول فيغترُّ به الأغمار وضعفاء العقول.
السبب الثاني: أن يُخرج المعنى الذي يريد إبطالَه بالتأويل في صورةٍ مستهجنةٍ تنفر عنها القلوب وتنبو عنها الأسماع، فيتخيَّر له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدَّها نفرةً عنها فيتوهَّم السامع أنَّ معناها هو الذي دلَّت عليه تلك الألفاظ، فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفِّرون به عن الحقِّ ويدْعُون به إلى الباطل، ولمَّا أراد المتأوِّلون المعطِّلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنَّة الألقابَ القبيحة فسمَّوْهم حشويةً ونوابتَ ونواصبَ ومجبرةً ومجسِّمةً ومشبِّهةً ونحو ذلك، فتولَّد من تسميتهم لصفات الربِّ تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيبِ من أثبتها له بهذه الألقاب لعنةُ أهل الإثبات والسنَّة وتبديعُهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم ولَقُوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم، وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يَرِثَها الله ومن عليها.
السبب الثالث: أن يَعْزُوَ المتأوِّل تأويلَه وبدعته إلى جليل القدر نبيه الذكر من العقلاء أو من آل البيت النبوي أو من حلَّ له في الأمَّة ثناءٌ جميلٌ ولسان صدقٍ ليحلِّيَه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإنَّ من شأن الناس تعظيمَ كلامِ مَن يعظم قدرُه في نفوسهم وأن يتلقَّوْه بالقبول والميل إليه، وكلَّما كان ذلك القائل أعظمَ في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتمَّ؛ حتى إنهم ليقدِّمونه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منَّا، وبهذه الطريق توصَّل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا علموا أنَّ المسلمين متَّفقون على محبَّتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم فانتمَوْا إليهم وأظهروا من محبَّتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم وذكر مناقبهم ما خيَّل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأَوْلى الناس بهم ثمَّ نفَّقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم، فلا إله إلاَّ الله كم من زندقةٍ وإلحادٍ وبدعةٍ وضلالةٍ قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهُمْ براء منها براءةَ الأنبياء من التجهُّم والتعطيل، وبراءةَ المسيح من عبادة الصليب والتثليث، وبراءةَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من البدع والضلالات.
وإذا تأمَّلتَ هذا السبب رأيتَه هو الغالبَ على أكثر النفوس، وليس معهم سوى إحسانِ الظنِّ بالقائل بلا برهانٍ من الله ولا حجَّةٍ قادتهم إلى ذلك، وهذا ميراثٌ بالتعصيب من الذين عارضوا دينَ الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحسن ظنِّهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل، وكانوا أعظمَ في صدورهم من أن يخالفوهم ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأنهم كانوا على الباطل، وهذا شأن كلِّ مقلِّدٍ لمن يعظِّمه فيما خالف فيه الحقَّ إلى يوم القيامة.
السبب الرابع: أن يكون ذلك التأويل قد قبله ورضِيَه مبرِّزٌ في صناعةٍ من الصناعات أو علمٍ من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برَّز به ذكرٌ في الناس ويشتهر له به صِيتٌ، فإذا سمع الغمر الجاهل بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسنَ الظن به وارتضاه مذهبًا لنفسه ورضِيَ من قِبَلِه إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختارَ مع جودة قريحته وذكائه وصحَّة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه إلاَّ الأصوبَ والأفضل من الاعتقادات والأرشدَ والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري من اختياره فرضيتُ لنفسي ما رضيه لنفسه فإنَّ عقله وذهنه وقريحته إنما تدلُّه على الصواب كما دلَّته على ما خفيَ عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك بها أممٌ لا يحصيهم إلاَّ الله، رأوا الفلاسفةَ قد برَّزوا في العلوم الرياضية والطبِّية واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم وصحَّة أفكارهم ما عجز أكثر الناس عن تعلُّمه فضلاً عن استنباطه، فقالوا للعلوم الإلهية والمعارف الربَّانية أسوةً بذلك: فحالهم فيها مع الناس كحالهم في هذه العلوم سواءً، فلا إله إلاَّ الله، كم أهلكت هذه البليَّة من أمَّةٍ، وكم ضربت من دارٍ وكم أزالت من نعمةٍ وجلبت من نقمةٍ، وجرَّأت كثيرًا من النفوس على تكذيب الرسل واستجهالهم، وما عرف أصحاب هذه الشبهة أنَّ الله سبحانه قد يعطي أجهلَ الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحذق في العلوم الرياضية والصنايع العجيبة ما تعجز عنه عقول أعلم الناس به ومعارفهم، وكثيرًا ما تجد الرجلَ قد برَّز في اللطيف من أبواب العلم والنظر وتخلَّف في الجليل منهما، وأصاب الأغمض الأدقَّ منها وأخطأ الأجلَّ الأوضح، هذا أمرٌ واقعٌ تحت العيان، فكيف وعلوم الأنبياء ومعارفهم من وراء طور العقل، والعقل -وإن لم يستقلَّ بإدراكها- فإنه لا يحيلها، بل إذا أُوردتْ عليه أقرَّ بصحَّتها وبادر إلى قبولها وأذعن بالانقياد إليها وعلم أنَّ نسبة العلوم التي نالها الناس بأفكارهم إليها دون نسبة علوم الصبيان ومعارفهم إلى علوم هؤلاء بما لا يُدْرَك.
السبب الخامس: الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفةً به من المعاني الغريبة التي إذا ظفر الذهن بإدراكها ناله لذَّةٌ من جنس لذَّة الظفر بالصيد الوحشيِّ الذي لم يكن يطمع فيه، وهذا شأن النفوس فإنها مُوكلةٌ بكلِّ غريبٍ تستحسنه وتؤثره وتنافس فيه حتى إذا كثر ورخُصَ وناله المُثري والمقلُّ زَهِدَتْ فيه مع كونه أنفعَ لها وخيرًا لها ولكن لرخصه وكثرة الشركاء فيه، وتطلب ما تتميَّز به عن غيرها للذَّة التفرُّد والاختصاص، ثمَّ اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها وألقَوْها في مسامع الناس وقالوا: إنَّ المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها، فتحرَّكت النفوس لطلب فهم تلك الألفاظ الغريبة وإدراك تلك المعاني، واتَّفق أن صادفت قلوبًا خاليةً من حقائق الإيمان وما بعث الله به رسوله، فتمكَّنت منها فعزَّ على أطبَّاء الأديان استنقاذُها منها وقد تحكَّمت فيها.
السبب السادس: تقديم مقدِّماتٍ قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه، فمنها ذمُّ أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم وأنهم قومٌ جُهَّالٌ لا عقول لهم، وإنما هم أصحاب ظواهرَ سمعيةٍ، ويحكون عنهم إنكارَ أدلَّة العقول والبحث والنظر وجدال أهل الباطل، والنفوسُ طالبةٌ للنظر والبحث والتعقُّل.
فهذه المقدِّمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمَّت هذه الأسباب بعضُها إلى بعضٍ وتقاربت فيا محنةَ القرآن والسنَّة وقد سلكا في قلوبٍ قد تمكَّنَتْ منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال” مختصر من كتاب (الصواعق المرسلة) 2/436-451.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *