الدنيا مزرعة للآخرة وأيام الإنسان فيها معدودة، ومهما عاش فيها حينا من الدهر لابد له من يوم يودعها ويساق فيه إلى القبر أول منازل الآخرة، فإما يكون من الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وإما من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم. يقول الله عز وجل: “فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ” الزمر:15.
والمؤمن الذي يتبصر في آيات الله الصادقة ويتدبر فيما مضى من الأقوام الهالكة ويتفكر فيما ينتظره في الدار الآخرة، يستشعر عظم موقف السؤال وهول مشهد الوقوف بين يدي العزيز القهار يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يقول الله عز وجل: “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ” هود:103.
فيبادر العبد باغتنام سويعات الدنيا الزائلة وأوقاتها العابرة للتزود بزاد التقوى والأخذ بأسباب النجاة قبل أن يباغته الموت على حين غفلة، يقول الله تعالى: “وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ” الزمر:55-56.
والغافل العاجز الذي اتبع هواه واغتر بشبابه وماله، وزيَّن له الشيطان عمله فصده عن السبيل، اشترى دنياه بآخرته وركن إلى الملذات وانساق مع الشهوات، واقتصر على التسويف والأماني، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكيسُ منْ دانَ نفسَهُ، وعملَ لمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ منْ أَتْبَعَ نفسَهُ هواهَا، وتمنَّى على اللهِ الأمانيَّ” السيوطي، الجامع الصغير:6468.
نسي الله تعالى فأنساه نفسه واستدرجه بالمعاصي وأمهله من غير إهمال حتى إذا أدركه الموت واستيقنته نفسه وانقطعت به السبل، وجد ما كان يوعد وأدرك حقيقة المآل وعاقبة السؤال، يقول الله عز وجل: “لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” ق:22، فيتمنى تقديم بنيه وزوجته ومن في الأرض جميعا فداء نجاته، يقول الله تعالى: “يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَو يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ تَدْعُومَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ” المعارج: 11-18.
ويأمل لو تحول إلى تراب واستوى بالأرض، يقول عز وجل: “يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَو تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا” النساء:42، فلا ينفعه يومئذ ماله ولا ولده ولا جاهه ولا سلطانه، يقول الله تعالى: “وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ” الحاقة:25-29، يوم الحسرة الكبرى والندم الشديد على التفريط في حق الله تعالى بعد أن أنذره عاقبة هذا اليوم العظيم وأرسل إليه الرسل وأنزل عليهم الكتب، لإقامة الحجة عليه، يقول الله عز وجل: “وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” مريم:39. ويقول عز من قائل: “إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا” النبأ:40.
لقد كشف القرآن الكريم بوصف بليغ مشاهد من هذا اليوم الموعود وحال المتحسرين على تضييعهم أوقات العمل الصالح وتضحيتهم بالآخرة الدائمة لأجل الدنيا العابرة، يقول الله تعالى: “وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا” الفرقان:27-29.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ أهلِ النارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجنةِ، فيقولُ: لَو أنَّ اللهَ هَدَانِي، فَيكونُ عليهم حَسْرَةً، وكلُّ أهلِ الجنةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ، فيقولُ: لَوْلا أنَّ اللهَ هَدَانِي، فَيكونُ لهُ شُكْرًا، ثُمَّ تَلا رسولُ الله: “أنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتَى على ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ”) الألباني، السلسلة الصحيحة: 2034.
فيُحمِّل المجرمون بعضهم بعضا مسؤولية إغوائهم وشقائهم، فيتنكر كل منهم مما اتُّهِم به ويتبرأ مما نسب إليه ويلقي اللائمة على الآخر، يقول الله عز وجل: “وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوهَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ” إبراهيم:21. ويقول جل جلاله: “إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوأَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ” البقرة: 166-167.
ويدرك أتباع الشيطان يومئذ، حقيقته ومكره في إغوائهم، واحتياله عليهم ووعوده الكاذبة لهم، ويَكفُر بما عاهدهم عليه وبما أشركوه فيه، وبأن ما وعدهم الله عز وجل هو الحق، يقول الله تعالى: “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” إبراهيم:22.
فما يزيدهم ذلك إلا هما وحسرة، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: “فَإِنَّ الذَّنْبَ لَكُمْ، لِكَوْنِكُمْ خَالَفْتُمُ الْحُجَجَ وَاتَّبَعْتُمُونِي بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى الْبَاطِلِ، مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أَيْ: “بِنَافِعِكُمْ وَمُنْقِذِكُمْ وَمُخَلِّصِكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ”، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أَيْ: “بِنَافِعِيَّ بِإِنْقَاذِي مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ..” تفسير القرآن العظيم: 4/490-491.
فيستغيثون بالله تعالى أن يعيدهم إلى الدنيا ولو للحظة واحدة ليطيعوه حق الطاعة ويعبدوه حق العبادة، يقول الله تعالى: “قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ” المؤمنون:100، ويستنجدون به عز وجل بأن يخفف عنهم يوما من العذاب، يقول الله تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ” غافر: 49، وبأن يخرجهم من النار بعد اعترافهم بذنوبهم، يقول الله تعالى: “قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ” المؤمنون: 106، 107، فيكون الجواب القاطع والرد النهائي الذي لا جدال فيه: “قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ” المؤمنون: 108. م
قيما عليهم حجة مصيرهم الذي آلوا إليه، وبرهان دعوتهم إلى الحق، فيقرون على أنفسهم بالإيجاب، يقول الله تعالى: “قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ” غافر:50، ويحق عليهم العذاب، لأنهم لو أُرْجِعوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من قبل، يقول الله تعالى: “وَلَو تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَورُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ” الأنعام:28.
اللهم أمِّنا يوم الفزع الأكبر.. ويمِّن كتابنا.. ويسر حسابنا.. وأدخلنا الجنة.. إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.