الأسـرة العابـدة

الأسرةُ العابدَة أمنية دعا بها الأنبياء والصالحون، وتطلّع إليها المصلحون، واشرأبّت إليها أعناق المتّقين، إذ إنّها تحقّق غاية الوجود الإنسانيّ، عدا عمّا فيها من بقاء الحقّ يتسلسل في الأجيال التالية، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويكون سبب سعادة الأبناء في الآخرة، وعزّهم وسيادتهم في الدنيا، وهي مائدة ممدودة، وباب من الأجر والمثوبة مفتوح للآباء، بما يدعو لهم الأبناء، ومَا كانوا فيه سبباً للخير والهدى..
فقد وصف الله تعالى بعض أنبيائه بقوله: (وكانوا لنا عابدين) الأنبياء 73، وصيغة الجمع تشير إلى ما يمثّلونه من أسرٍ صالحة قام بنيانها على الإيمان بالله والحرص على مرضاته وتقواه.. وحدّثنا القرآن عن خليل الله إبراهيم عليه السلام أنّه دعا ربّه: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) إبراهيم 40. ووصف الله نبيّه إسماعيل عليه السلام بقوله: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) مريم 55. وجاء في دعاء عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) الفرقان 74.
والعبادة لله تعالى مظهر التحقّق بالعبوديّة الصادقة، التي يشكر الأنبياء الكرام ربّهم عليها، ويتمنّى المؤمنون الصادقونَ أن تستمرّ في أولادهم وذرّيّتهم منْ بعدهم، فمن دعاء سليمان عليْه السلام، الذي قصّه علينا القرآن: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) النمل 19، وحدّثنا القرآن عن حال الرجل الصالح، كيف يدعو ربّه ويرجوه: (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الأحقاف 15.
وأمر الله تعالى المؤمنين أن يأمروا أهليهم بالصلاة ويصبروا عليها، والصلاة أهمّ العبادات العمليّة، وأرفعها درجة ومنزلة، فقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) طه 132.
فالأسرة العابدَة أسرة عرفت غايتها في الحياة، فانْطلقت نحوها بهمّة عالية، وعزيمة صادقة راسخة، لم تقف في طريقها عقبة، ولم يثنها عنْ سبيلها شيء، لقد تحلّت بجلباب العبوديّة لله تعالى، فكانت منارة لأهل الأرض، يمتدّ فضلها في كلّ باب من أبواب الخير والمعروف، وذكراً حسناً في الملأ الأعلى في السماء، لا تعرف في حياتها عكراً ولا كدراً..
الأسرة العابدَة تعيش الانسجام الأسريّ فيما بينها بأسْمى صوره ومعانيْه، فهي كالجسد الواحد، والروح الواحدة.. إنّها تعيش في حبّ ووئام، وأمنٍ وسلام، وأنسٍ وبشر، تتنزّل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفّها الملائكة، وتكلؤها بالليل والنهار، والغدوّ والآصال، ويغمرها الرضا والسعادة في جميع الأحوال.. وتقوم علاقاتها الاجتماعيّة كذلك على الإخلاص والنصح، والاحترام والتقدير، والشفقة وحبّ الخير..
عرفت أنّ الحياة جدّ، ليست لعباً ولا عبثاً، وأنّ هذه الدار دار ابْتلاء، فشمّرت عن ساق العزم والجدّ، ووفّت لله بالعهْد، فجاءتها الدنيا خادمة راغمة، سهلة ميسّرة، ونالت سعادة الآخرة راضية مرضيّة، وعبّاد الشهوات حولها في غيّهم سادرون، وخوضهم يلعبون، وشكّهم يتردّدون، يلهثون خلف السراب الكاذب، والبرق الخالب، ويشقون في خدمة الدنيا آناء الليل وأطراف النهار، ويفنون فيها الأعمار، ثمّ يرحلون عنها، ولم يقضوا منها لبانة ولا وطراً، فتشتدّ ندامتهم، وتطول حسراتهم، حيث لا ينفع الندم، ولا تغني الحسرَات، ويتمنّون العودة إلى الدنيا، وهيهات! هيهات! لا يقبل منهم التمنّي والرجاء..
الأسرةُ العابدَةُ تهب المجتمع الأبناء الأسوياء النفّاعين، الذين لا يكونون عبئاً ولا بلاء، يبشّرون ولا ينفّرون، ويجمعون ولا يفرّقون، وييسّرون ويرغّبونَ.. فهي مصدر أمن المجتمع وطمأنينته، وسرّ نجاحه وسعادته..
الأسرةُ العابدَةُ هبة الرحمن لمن صدق العهد، وأخلص الودّ، إنّها تقوم على دعائم، وتتميّز بمعالم، ودون الوصول إليها مجاهدات ومكابدات، ومحكّ الصدق فيها الالتزام بالمنهج بلا عوج، والاستقامة على الصراط بلا تقصير ولا شطط، لا تنفع فيها الظنون والأوهام، ولا الدعاوى بغير برهان، يحظى فيها الآباء بالسعادة العاجلة، عندما تقرّ أعينهم بأبنائهم في هذه الدار، ولدار الآخرة خير للمتّقين الأبرار.
وما أروع تلخيص القرآن الكريم لمنهجها في بيانه المعجز، ولفظه الموجز، بقوله تعالى: (..قُوا أنفُسَكُم وَأهلِيكُم نَاراً) التحريم 6، إنّها أربع كلمات، جمعت حقائق المنهج من أطرافها، وأحكمت علاقاتها، وشادت بنيانها..
فالأسرة التي هي دائرة الفرد وحصنه الحصين، ومحور المجتمع وركنه المتين، لا سعادة لأحدٍ فيها إلاّ بالاحترام الجادّ المتبادل، والوفاء الودود، والمحبّة الصادقة، والرحمة الدائمة والمودّة، التي يلقاها من الطرف الآخر.. ولا أمل في ذلك إلاّ أن تقوم على علاقة إيمانيّة تتّصل بالله تعالى ودينه وشرعه بأوثق العرا وأزكاها، وأجملها وأسماها، وأن تتّصل بالآخرة دار النعيم المقيم، والجزاء العظيم، فيحدّث الزوج نفسه: “إنّ زوجتي هذه رفيقة حياتي، وستكون زوجتي في عالم الخلد والأبد، فلا ضير عليها إن أصبحت الآن عجوزاً ضعيفة، ما دامت تزداد بالله إيماناً وعملاً صالحاً، فإنّها تستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم، ووفاء ورأفة..” وتحدّث الزوجة نفسها: “إنّ زوجي هذا رفيق حياتي، وسيكون زوجي في عالم الخلد والأبد، فلا ضير عليه إن أصبح اليوم شيخاً كبيراً ضعيفاً، ما دام يزداد إيماناً بالله تعالى وعملاً صالحاً، فإنّه يستوجب منّي كلّ رعاية وتكريم، وخدمة وعناية، ووفاء ورأفة..”.
وهكذا لا تزداد العلاقة بين الزوجين على تطاول الأيّام والسنين إلاّ وثوقاً ورسوخا.. بخلاف أولئك البهائميّين الذين لا يعرفون العلاقة الزوجيّة إلاّ علاقة جنسيّة شهوانيّة، فإذا ضعف أحد الطرفين أو مرض تخلى عنه الطرف الآخر، وتنكر له، وذهب يبحث عن سبل أخرى لقضاء لذّاته ونزواته، ونسي ما كان يدّعي من المحبّة والمودّة.. وربمّا كان من أحد الطرفين من البغي على الطرف الآخر والغدر به، ما تأباه الحيوانات العجماوات، وتأنف عنه.. إنّها الأنانيّة القاتلة التي تفرضها الحياة المادّيّة، التي لا تعرف حياة الروح ولذّتها وأشواقها، بل إنّها تحاربها، ولا تؤمن بها..
وهكذا ترشح سعادة الحياة الأسريّة على علاقة الرحم والقرابة، وتتضوّع أنسام المودّة والرحمة في أرجاء المجتمع المسلم وأنحَائه، وتتقلّب الأمّة في بحبوحة السعادة الوارفة وظلالها، ونسمات الجنّات ورياضِها، وتِلكَ عاجل سعادة المؤمنين في هذه الحياة، قبل الانتقال إلى الدار الآخرة وما فيها من النعيم والتكريم.
أفليس في هذه الحياة الكريمة المطمئنّة ما يقدّم للعقلاء ذوي الألباب والبصائر دليلاً على الحياة الآخرَة أشبه بالدليل المادي المحسوس؟!
(إنّ في ذَلِكَ لَذِكرَى لمَن كَانَ لَه قَلبٌ أو ألقَى السمعَ وَهُو شَهِيدٌ) ق 37.
فليلق السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق، من المعنيّين بشئون الإنسان وأخلاقه واجتماعه، وليبيّنوا لنا:
بماذا سيملؤون هذا الفراغ القاتل؟
وماذا قدّموا لإسعاد الإنسان، وإنقاذه من شقوته وحلّ مشكلاته؟
وماذا ينتظرون من البلاء الداهم على البشريّة؟!
وبماذا سيداوون هذه الجروح الغائرة العميقة، التي لا تزداد مع الأيام إلاّ تقيحاً وعمقا؟!

من كتاب ملامح السعادة في تربية الطفل على العبادة
للدكتور عبد المجيد البيانوني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *