خلق الله تعالى الإنسان وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وجعله خليفة في الأرض، وسخر له ما فيها جميعا من أجل صلاحه؛ قال الله تعالى: “هُو الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ” البقرة 29.
وقد بعث الله تعالى الرسل وأنزل عليهم الكتب إرشادا للناس إلى الحق؛ وتجنيبا لهم من الوقوع في الظلم والباطل وإقامة للحجة عليهم، يقول عز وجل: “وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا” النساء:164-165.
ونعم الله تعالى على عباده لا تحصى ولا تعد، وهي تَكرُّمٌ منه تعالى وتفضُّل على عباده، لا ينتظر منهم مقابلا عليها فهو الغني عن ذلك؛ والمتعالي عنه علوا كبيرا، “وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” النحل:18.
والعباد هم المفتقرون إلى هذه النعم، التوّاقون إلى دوامها، الحريصون على الاستزادة منها، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُو الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ” فاطر 15-16.
لكن دوام هذه النعم له سبله، من اعتراف بها وبالمنعم بها وحمده تعالى عليها، وتسخيرها في الخير ومصلحة الدين والبلاد والعباد، والدعاء بدوامها والاستزادة منها، كما أن لزوالها أسبابه، التي على المؤمن اجتنابها والحذر من الوقوع فيها، فهذه أخي القارئ الكريم بعض من تلك الأسباب، نسأل الله عز وجل أن يقينا شر الابتلاء بها.
1. الشرك بالله: أعظم نعم الله تعالى على العباد هي نعمة الإسلام؛ وشر البلية أن يبتلى الإنسان في دينه أو يصاب في إيمانه، لأن الدين هو قوام الحياة وهو سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، وفي مقابل ذلك فإن الشرك أعظم الذنوب وهو رأس الظلم وسبب الهلاك والبوار في الدنيا والآخرة ووسيلة لمحق النعم، يقول الله تعالى: “وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ” يوسف:38. ويقول عز من قائل: “الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ” البقرة:22.
2. الكفر بالنعم: فعجبا للعبد يتقلب في نعم الله تعالى ليلا ونهارا آمنا مطمئنا ولا يحدث نفسه بها اعترافا، ولا يناجي ربه عنها سرا وعلانية حمدا وامتنانا، شكرا وعرفانا، وهو المفتقر إليها بين يدي الله عز وجل راجيا إياه دوامها داعيا إياه عدم زوالها، يقول الله تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” النحل:112.
3. الظلم والصد عن سبيل الله: مجانبة الحق والعدل، والميل إلى الباطل والظلم، والانصراف عن ما أباحه الله وشرَّعه إلى ما حرَّمه ونهى عنه، سبب ظاهر من أسباب حرمان النعمة وقطع سبل وصولها والانتفاع بها، يقول الله عز وجل: “فبظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” النساء: 160-161.
4. البَطَر: المبالغة في الطغيان والزهو بما أوتي العبد من نعم، تُعمي بصيرته وتغطي على نور القلب، فتُنسيه شكر المُنعِم تبارك وتعالى وتمنعه من استحضار وتفكر فضله عليه، فينشغل العبد الغافل بالانغماس في ملذات هذه النعم، فيصده ذلك عن إخراج حق الله تعالى منها لمستحقيها زكاة أو صدقة، ويلهيه عن استعمالها في طاعة الله وصلاح المجتمع، فيُستدرج بتلك النعم والبطر بها حتى يأخذه الله تعالى بغتة دون أن يشعر، “وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ۖ فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ۖ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ” القصص:58. ويقول جل ذكره: “فلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ” الأنعام:44.
5. الإعراض عن الحق والتكذيب بالرسل: كلف الله تعالى رسله بتبليغ دينه والدعوة إلى الحق والتوحيد، وقد كانت هذه الدعوة غالبا ما تجد إعراضا وتكذيبا من فساق القوم ومُضليهم، رغم تذكير الرسل لهم بنعم الله تعالى عليهم في الدنيا وما ينتظرهم من نعيم مقيم في الآخرة إن هم آمنوا واتقوا، لكن تعنتهم واستكبارهم ومحاربتهم لله ورسله سبب ابتلائهم بخسرانهم لهذه النعم، يقول الله تعالى: “لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ” سبإ:15-16.
6. أكل الربا: المال نعمة من نعم الله تعالى وهو وسيلة لتقوية العبد على طاعة الخالق وسبب من أسباب قضاء حوائج الدنيا وهو ليس غاية في حد ذاته، وبركة الانتفاع تزيد بالصدقة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” صحيح الجامع:5809.
وتنميته تكون بالوسائل المشروعة التي أباحها الله تعالى، وليست بالوسائل المحرمة شرعا مثل الربا الذي يمحق بركة المال ويذهب سبل الانتفاع به، يقول الله عز وجل: “يمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ” البقرة:276.
7. التبرم من تسخيرها لمنفعة العباد: شرف كبير للعبد أن يجعله الله تعالى في خدمة الدين ونصرته والدعوة إليه، ووسام عظيم أن يؤتى العبد نعما من الله تكون وسائل يسخرها ويوظفها في منفعة الناس وقضاء حوائجهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا اللهُ، وَخُلُقَانِ يَبْغَضُهُمَا اللهُ، فَأَمَّا اللَّذَانِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: فالسَّخَاءُ وَالسَّمَاحَةُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ يَبْغَضُهُمَا اللهُ فَسُوءُ الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ” الجامع الصغير للسيوطي:3924، والشقي من تبرم من هذه النعم واعتبرها عبئا ثقيلا عليه أو تضجَّر من أدائها واستاء من تحمل أدائها لمصلحة الناس، أو قطع سبل إيصال منفعتها للعباد، فيكون بتبرمه هذا قد عرض هذه النعمة للزوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ ثُمَّ جعلَ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَتَبَرَّمَ، فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ” رواه الطبراني في الأوسط. صحيح الترغيب:2616.
اللهم أدم علينا نعمك وأحفظها يا رب من الزوال، وزدنا من خيرك وفضلك يا علي يا قدير.
والحمد لله رب العالمين.