الصدقة من أبرز مظاهر التراحم والتآزر بين المسلمين وهي وسيلة مثلى لتمتين أواصر المحبة وإذكاء روابط المودة والألفة بين أفراد المجتمع المسلم، فلا تزال الأمة بخير وفي فسحة من دينها ما دام أغنياؤها يعطفون على فقرائها، وذوي السعة فيها يوسعون على معسريها.
ففضل الإنفاق والصدقة في سبيل الله فضل عظيم عند الله تعالى، تشهد له آيات وأحاديث كثيرة، ترغب فيها وتعلي فضلها وترفع من منزلة المتصدقين، يقول الله عز وجل: “لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً” النساء:114. ويقول الله تعالى: “فلمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ” يوسف:88.
فلا يحقرن العبد من الصدقة شيئا وإن قل، فهو لا يدري حجم أجرها الذي سيضاعف له عند الله تعالى، يقول الله عز وجل: “وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” التوبة:121، ويقول تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” البقرة:261، وهذا حافز كبير للمؤمن على الإقدام على التصدق ودافع قوي يرغبه في الإنفاق في سبيل الله.
فالصدقة بمثابة قرض يقرضه العبد لربه فيدخر الله تعالى هذا القرض إلى يوم القيامة، وما إن يُعرَض عليه، إلا ويجده قد صار أضعافا مضاعفة، لم يكن يتوقعها، يقول الله تعالى: “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” البقرة:245.
وقد يكون أجرها استظلال بظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة: “..وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصدقة فأَخْفَاها حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ..” أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد رقم:629.
فالمال مال الله تعالى وهو قادر على الذهاب به في أي لحظة، والعبد مسؤول عنه، من أين اكتسبه وفيم أنفقه، يقول عز من قائل: “الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ” الأنفال:3-4، ويقول الله تعالى: “وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ” النور:33.
وما المال إلا وسيلة وأداة للانتفاع به فيما يرضي الله تعالى وتوظيفه في إصلاح الدين وإقامة شرع الله عز وجل، فاغتنام إنفاقه في سبيل الله تعالى سبب في دوامه وسبيل لزيادته ونمائه، يقول الله تعالى: “يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ” البقرة:276.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما نقص مال عبد من صدقة” سنن الترمذي ، رقم: 2325.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن تبارك وتعالى حتى تكون أعظم من الجبل ويربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله” سنن ابن ماجة، باب فضل الصدقة، رقم:1842.
ومن أعظم فضائل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، أن أجرها يستمر حتى بعد وفاة العبد وانتقاله إلى الدار الآخرة، وهذا باب عظيم من أبواب تكفير الذنوب وعدم انقطاع العمل، فعن أبى هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له “رواه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته رقم: 1631.
بل إن أجر التصدق عن الميت يصل إليه بعد مماته، عن عائشة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن أمي افْتُلِتَت نفسها وإني أظنها لو تكلمت تصدقت فلي أجر أن أتصدق عنها؟”، قال: “نعم”، رواه مسلم، كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، رقم: 1630.
يقول الإمام النووي: “وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها، وأن ثوابها يصله وينفعه، وينفع المتصدق أيضا، وهذا كله أجمع عليه المسلمون”، المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ص:1038.
كما أن إنفاق العبد مما يحب وتصدقه من أعز ما لديه لا مما فضل عنه، شرط في بلوغه درجة البر وهي درجة عالية لا ينالها إلا العبد الذي درب نفسه على البذل وعودها على الإنفاق، فيشاطر المحتاج ما لديه من خاصة ماله سرا وعلانية عن طيب نفس ورحابة صدر في السراء والضراء، في الرخاء والشدة، يقول الله عز وجل: “لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ” آل عمران:92. ويقول الله تعالى: “الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” آل عمران:134.
والصدقة لا تنحصر في كونها نفقة مادية بالمال، وإنما تتعدى ذلك إلى ما هو معنوي، فعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة” سنن الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في صنائع المعروف، رقم: 1956.
وهذا يفسح مجالا واسعا ويفتح بابا عظيما لاغتنام فضل وثواب هذه الطاعة لكل من له القدرة وإمكانية تقديم فائدة أو كل ما من شأنه أن يعود بالنفع والصلاح على الفرد والمجتمع.
ومن فضل الصدقة أنها طهرة للعبد من الآثام والذنوب وتزكية للنفوس من شوائب النفاق، وهي برهان على صدق التوبة إلى الله تعالى والتخلص من دنس المعصية، يقول الله عز وجل: “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” التوبة:103-104.
يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: “(صَدَقَةً) مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات” الجامع لأحكام القرآن: 8/249، ويقول الله تعالى: “إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” البقرة:271.
وكما رغب الله تعالى ورسوله الكريم في الإقبال والمبادرة إلى التصدق، فقد حذر الله عز وجل من مغبة منعها والبخل بها، مع توفر المقدرة على أدائها، وتوعد كل من يسعى إلى اكتناز الأموال وعدم أداء حق الله منها، بالعذاب الأليم، يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ” التوبة: 34-35.
كما أن إتباع الصدقة بالمن وانتظار الشكر والمدح من العباد والتباهي والحديث بها بين الناس، يعتبر رياء يمحق أجرها ويبطل ثوابها، يقول الله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” البقرة:264.
اللهم اجعلنا من المتصدقين والمنفقين في سبيلك وبارك لنا فيما أعطيتنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.