ثمة أمور يجعلها الإنسان وفق مداركه وهو يتعبد الله -تبارك وتعالى-، أولها: أن تعلم إن التوفيق للطاعة أمر بيد الرب -جل وعلا- وحده قال الله تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ النور:35، فالتماس التوفيق في الأعمال الصالحة وفي غيرها من مطالب الدنيا المباحة إنما يكون من عند الرب -تبارك وتعالى-، والإنسان لو وُكِّل إلى اجتهاده وقدراته لهلك ولكن الهادي والموفق هو الرب -جل وعلا-.
وأكثر ذكره في الأرض دأبـا لتذكر في السمـاء إذا ذكرتـا
وسل من ربك التوفيق فيهـا واخلـص في السؤال إذا سألتـا
ونادي إذا سجدت به اعترافاً كمـا نـاداه ذي النون بن متى
فالمقصود أن يعلم العبد في أول الأمر أنه لا خير يجلب ولا شر يدفع إلا بالله، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى-: (والله لن يصلوا إلى شيء يبتغونه بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله).
فإذا كان ما لا يتعلق به أجر لا ينال إلا بالله، فكيف ما علق الله عليه الأجر ووعد الله عليه الحسنى وذكر عليه الجنان والعطايا والهبات هذا لا ينال من باب أولى إلا بتوفيق الرب -تبارك وتعالى-.
من ما يعينك -أيها القارئ الكريم- على أن تستثمر الباقيات الصالحات وتأتيها؛ أن تتذكر أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تتذكر المحرمات على النار، والممنوعين من دخول الجنة فما الجنة والنار؟
خلقان من مخلوقات الله يدخل الله -جل وعلا- فيهما من يشاء فإذا تذكرت من حرَّم الله على النار كان ذلك باعثا حثيثا في نفسك أن تأتي الأعمال الصالحة، وإذا تذكرت من حرَّمه الله على الجنة أو منعه الجنة كان ذلك باعثا حثيثا في نفسك أن تبتعد عن تلك الأعمال.
قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله حرَّم على النار أعضاء السجود)، فلو أن العبد وهو يسجد تذكر أن هذه الأعضاء إذا أخلصت لله وكان سجودها موافقا لشرع محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنها محرَّمة بأمر الله على النار..
أن تتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ)( )، فأما الأولى فإنها رقة القلب ولين الفؤاد واقشعرار الجلد وذروف الدمع، ذلك من مناقب أولياء الله الصالحين، خاصة إذا كان الأمر في الخلاء في معزل عن الناس كان ذلك إلى الله أقرب.
ومن قدر له أن يستبطن أقوال العلماء من المفسرين يجد والله ما من كلمة قالها أهل العلم من المفسرين أشدُّ على من يقرأها من قول سفيان ابن عيينة -رحمه الله- وهو يفسر قول الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ النحل: 90، قال -رحمه الله-: (العدل أن تستوي العلانية والسريرة، والإحسان أن تكون سريرة المرء أعظم من علانيته)( )، ودون ذلك خرط القتاد، وإنه ليسير على من يسره الله -جل وعلا- عليه.
فأمثال هذه الثلاثة أحاديث من أعظم البواعث على الأعمال الصالحة يقابلها قوله -صلى الله عليه وسلم- (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ)( )، (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ)( ) أي: قاطع رحم، (لا يدخل الجنة مدمن) أي مدمن خمر، (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)( )، فهذه الأربع إذا تذكرها العبد قبل أن يأتيها ويعلم أنها ستحول بينه وبين الجنان، لجأ إلى الله -جل وعلا- يستعصم به ويسأله -تبارك وتعالى- من هديه ونوره، وانعكف على الأعمال الصالحة يتقرب بها إلى الله، ودرأ عن نفسه كل ما يحول بينه وبين عذاب ربه.
مما يعين العبد على الأعمال الصالحة أن يعلم أن المقام يوم القيامة مقام تغابن بين العباد ولهذا قال سبحانه: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ التغابن: 9، وقد قال الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يلجأ إلى ربه ويسأله ويتضرع إليه قال: ﴿وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ﴾ الشعراء:87-88.
فتذكر الخوف من الخزي الأعظم وذل الفضيحة بين يدي الله -جل وعلا- من أعظم ما يعين المرء أن يأتي الأعمال الصالحة التي نعتها الله تعالى بقوله في وصفه إياها: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ الكهف: 46، خير ثوابا من غيرها من المباحات؛ وخير أملا أي أعظم ما يكون ذخرا للعبد يوم يلقى الله تعالى.