زرع بذور الفرقة وإشعال فتيل النزاع وإذكاء نار الشتات في الأمة، من أعظم الفتن التي توهن قوتها ومن أشد الآفات التي تكسر شوكتها، يقول الله عز وجل: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” الأنفال:46.
وكثيرا ما يغفل المسلمون شرَّ هذا البلاء فلا يقدرون داءه حق التقدير، ولا يجُسّون خطره على تماسك لحمة القوم وشق صفهم، خصوصا إذا ابتليت الأمة بهذا الداء في علمائها ونخبها الفكرية ومثقفيها، وهم الذين يحملون مشعل النور للعامة، ومصباح العلم والوعي الذي يضيئون به دهاليز الجهل والخرافة.
وهذا الداء الذي عهده المسلمون منذ القديم ليس بجديد، وإنما هو متأصل في النفس البشرية فحتى بعض الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم، لم يسلموا من شر هذا الداء في بعض المواقف، وقد رسموا صورا مشرقة في التاريخ لآداب الخلاف، قال الله تعالى: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ” آل عمران: 152.
ولا زالت الأمة بين دوامة الفرقة والشقاق إلى يومنا هذا، في عصر نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتآلف وردء الصدع منه إلى الشتات والتنازع.
والشيطان زيادة على حب الانتصار للنفس، وإن كان الشخص على خطأ، يتخذان من باب الخلاف والنزاع منفذا لإشعال فتيل الصراع والصدام والتعصب للرأي، ويغذيان بذلك نار الحسد والبغض والكراهية والعداوة بين المسلمين، فيصير العنف والصد بديلا عن الحوار والحلم ويصبح الجدال واللجاج العقيم حائلا أمام أي نتيجة هادفة وعائقا ضد أي مصلحة دينية أو دنيوية، يقول الحق سبحانه: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” آل عمران: 105.
بل أعظم من ذلك فقد يجر هذا التنازع إلى فتن مدمرة كالحروب والقتال، ولعل ذلك هو السر في تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من التنازع والخلاف المذموم، فعن النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ في حَجَّةِ الوداعِ: “ويْحَكُم (أوقالَ: ويْلَكُم) لا تَرْجِعوا بَعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ” صحيح مسلم: 66.
وشرور النزاع والفرقة لا تتوقف عند الخزي في الدنيا الذي قد يتخذ عدة مظاهر كالتخلف الاجتماعي والاقتصادي والتراجع الفكري والتعليمي، وهدر الوقت والجهد في الجدال والمراء العقيم، وإنما يتعدى كل ذلك إلى الخسران المبين في الآخرة، وذلك لعصيان أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله المتين وتأليف القلوب على التآخي والمحبة، يقول عز وجل: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” آل عمران: 103.
يقول الإمام القرطبي: “فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة.. وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع، فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون.. وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد..” الجامع لأحكام القرآن: 4/152-153.
وهذا التأليف بين القلوب على صفاء النفس وعلى الإيثار والتآخي إنما هو فضل من الله تعالى لما وجد في قلوب المؤمنين من بذور التقوى وأنوار الإيمان، يقول الله تعالى: “وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُو الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَو أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال: 62-63.
ومن رحمة الله تعالى بالمؤمنين حتى تجتمع كلمتهم ويشتد عودهم أمام عدوهم، أن قلل الله تعالى عدد المشركين في أعينهم وأراهم لهم في مرأى الضعف، وذلك تقوية لعزيمتهم ودرء لأسباب التنازع المؤدية إلى الفشل والانهزام النفسي، يقول الله عز وجل: “إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَو أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” الأنفال: 43.
ويبين لنا القرآن الكريم أن الخوض في الخصومة التي تفضي إلى التنازع بالجدال في النظريات والأطروحات الغريبة التي ليس لها تأصيل شرعي من القرآن والسنة والإجماع، وعدم وضعها تحت أعين مسلمة فاحصة مؤهَّلة يوثق فيها لأخذ ما يوافق شريعتنا ورفض ما يتنافى معها، يبين لنا أن السبيل لقطع دابر هذا التنازع والحكم الفيصل فيه، هو رد الأمور المتنازع فيها إلى الله وإلى رسوله وإلى أهل العلم وهذا هو سبيل الرشاد.
يقول الله تبارك وتعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً” النساء: 59.
فالله عز وجل يأمرنا بالأخذ بكل الأسباب المادية والمعنوية للقوة والتمكين والنصر، وما اتحاد المسلمين فيما بينهم واجتماعهم على كلمة واحدة وعلى قلب رجل واحد واصطفافهم في صف واحد، إلا سبل وأسباب للتقدم بين مصاف الأمم وأخذ زمام الريادة في الدنيا واغتنام الفوز في الآخرة، يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ” الصف:4.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “وقال قتادة: “كأنهم بنيان مرصوص”، ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل يحب أن لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به..” تفسير القرآن العظيم: 8/108. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المُؤمِنَ للمُؤْمِنِ كالبُنيانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا. وشَبَّكَ أصابِعَهُ” صحيح البخاري: 481.
ولعل أبلغ تشبيه في وصف قيمة الاتحاد ونبذ الفرقة والنزاع، ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، حين التفافهم ببعضهم وتوافقهم على المودة والرحمة والتعاطف، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ. إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى” صحيح مسلم:2586.
اللهم ألف بين قلوبنا، واصرف عنا أسباب التنازع والشقاق، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.