وبعد أن مر علينا شريط الذكريات؛ وازداد ندمنا وحسرتنا؛ كلما تذكرنا الفرص التي أضعناها لتأمين مستقبلنا؛ ليتخيل كل منا نفسه وهو يشاهد أحوال بعض الموتى الذين أطاعوا الله ورسوله واستفادوا من عمرهم في غرس الكثير من الأعمال الصالحة مما مكنهم من جني ثمارها بعد مماتهم، فقبر الواحد منهم على مد البصر وهو فيه يتقلب متنعما في روضة من رياض الجنة، وليس ذلك فحسب؛ بل إنه يرى مقعده ومكانه وقصوره في الجنة وما فيها من حور عين وطعام وشراب وفاكهة وخدم فيزداد اشتياقه إلى قيام الساعة.
الكثير من هؤلاء السعداء كانوا من الفقراء الذين تزدريهم أعين الناس، لكنهم لم يكونوا مجهولين عند ربهم.. فهذا كان من أهل المساجد، لا تكاد تفوته تكبيرة الإحرام، وهذا كان من أهل قيام الليل المستغفرين بالأسحار..، وهذا كان يتصدق ويبالغ في إخفاء الصدقة حتى لا تكاد شماله تعلم ما أنفقت يمينه..
أما هذا فقد شغله تدبر القرآن وإطالة النظر في معانية عن النوم فصحبه في قبره ونوَّره ووسعه عليه..
وهذا كان من العاملين للإسلام المجاهدين في سبيله، الساعين في خدمة الناس وتخفيف معاناتهم مع الأخذ بأيديهم إلى الله جل شأنه..
أما هذا فله وضع خاص.. لقد أبت الأرض أن تحلل لحمه، أما روحه فهي في حواصل طير خضر معلقة في العرش تسبح في الجنة وقتما شاء..
إنه الشهيد!!
يا لسعادته ويا لفرحته.. ويا لحسرتي، فلقد كان يمكنني أن أصل إلى ما وصل إليه لو كنت قد عقدت العزم على ذلك، وسألت الله الشهادة بصدق وعزم أكيد كما قال صلى الله عليه وسلم: “من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه” رواه مسلم.
يا لفرحة هؤلاء جميعًا بهذا النعيم الذي يتقلبون فيه، والذي لا يساوي شيئًا بجوار ما سيرونه هناك في دار الخلد.. لقد زرعوا ما طلبه الله منهم أن يزرعوه فحصدوا فوق ما تخيلوه.. أما أمثالي فلم يحصدوا إلى الغم والضيق، وصحبة عمله السيئ في حفرة ضيقة مرعبة.
القبور المظلمة:
ولكن مالي أرى أغلب القبور مظلمة؟ ماذا كان شأن أصحابها في الدنيا؟
لقد كنت أظن أنني على صواب عندما كنت أرى حالي في الدنيا كحال الغالبية العظمى من الناس، ولكن للأسف الشديد كان هؤلاء جميعًا في غفلة مثلي كما وصفهم ربهم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (الأنبياء: 1 – 3).
لقد انخدعوا ببريق الدنيا فآثروا شهواتهم على رضا ربهم فكانت النتيجة تلك القبور المظلمة التي تمتلئ على أصحابها نارًا..
لقد كانوا لا يتورعون عن فعل الموبقات، فهذا كان يشرك بالله، ينذر لغيره، ويذهب للسحرة والكهنة ويتلمس النفع من أصحاب الأضرحة، وهذا كان تاركًا للصلاة، عاقًّا لوالديه، قاطعًا لرحمه.. وهذه كانت تتجسس على جيرانها، وتمشي بالنميمة وسط الناس.. وهذا أدمن الكذب وظلم الناس وأكل حقوقهم.. وهذه كانت تخرج من منزلها متعطرة كاشفة شعرها وجزءا من جسدها.
أحصاه الله ونسوه:
لقد أحصى الله كل شيء {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف:49).. فالملكان الموكلان بتسجيل أعمال كل فرد لم يغفلا عن عملهما ولو للحظة واحدة كما أخبرنا ربنا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)..
ومع كل ما يحدث هنا في الحياة البرزخية من ضيق وظلمة وعذاب فإنه لا يساوي شيئا مذكورًا بجانب ما سيحدث في الآخرة.
فالكثير من هؤلاء من أصحاب القبور المظلمة والأعمال السيئة يرون مقعدهم من النار وما أُعد لهم من صنوف العذاب {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (غافر: 46).
يبحثون عن طعامهم فيها فيجدوه {شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} (الدخان: 43 -46).
فإن طلبوا الماء وجدوه {كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف: 29).
فراشهم وغطاؤهم من النار {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} (الأعراف: 41).
عذابًا لا يُطاق {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} (المزمل: 12،13).
يتمنون فيها الموت ولكن هيهات هيهات {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (فاطر: 36).
يرون هذا كله فيزداد غمهم وكربهم فيقولون يا رب لا تُقم الساعة.
أمنية الجميع:
الكل بلا استثناء يتمنى العودة إلى الدنيا ولو للحظة يسبح الله فيها تسبيحة أو يسجد فيها سجدة.. لقد أيقنوا بأنهم قد ظلموا أنفسهم وخدعتهم الدنيا بزخرفها، وتأكدوا من حقيقة عداوة الشيطان لهم، وأنه عدو حاقد حاسد لا يترك العبد إلا إذا تأكد من أنه صائر إلى النار.
خدعهم إمهال الله لهم وعدم عقابهم الفوري على ذنوبهم، وغرهم ستره المرخي عليهم فظنوا أن الأمر سيكون كذلك بعد الموت كما قال صاحب الجنتين {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (الكهف: 36).
وتناسوا قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (المؤمنون: 115،116).
الآن تذكَّروا نداءات ربهم المتكررة لهم في كتابه بسرعة العودة إليه والتصالح معه قبل فوات الأوان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر: 5، 6).
ولكن هل ينفع اليوم الندم؟! {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور: 16).