عبادة التفكر عبد القادر دغوتي

مفهوم العبادة في الإسلام، مفهوم واسع شامل لكل عمل صالح يقوم به العبد تقربا إلى ربه جل وعلا، سواء كان من أعمال القلوب أو من أعمال الجوارح. وإن من أعظم الصور التي يستوعبها هذا المفهوم: عبادة التفكر. وتعني إعمال النظر والفكر تدبرا وتأملا في خلق الله وفي آياته الباهرة القرآنية والكونية، وفي آلائه ونعمائه وإحسانه، ونحو ذلك من مواضع التدبر؛ امتثالا لأمره سبحانه.

التفكر: عبادة وطاعة أمرنا الله تعالى بها
ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو الناس إلى التفكر والتدبر؛ منها: قول الله تعالى في سورة (البقرة:266) {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}، وفي سورة (الأنعام :50) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} وفي سورة (الروم :8) {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}، وفي سورة (النحل:21) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وفي سورة (الذاريات:21) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}.

من صور التفكر التي أُمرنا بها
تتعدد مظاهر وصور التفكر الذي يدعونا إليه القرآن الكريم، ومن أبرزها وأجلها ما يلي:

التفكر في الآيات الكونية
أي في صفحات الكتاب الرباني المشهود، حيث تطالعنا آيات القدرة والخلق والإبداع والإحكام والإتقان …
نتفكر ونتدبر فيما خلق الباري جل جلاله من سماوات وأرضين وما فيهن من نجوم وكواكب وأفلاك وجبال وقفار وزرع وأشجار وبحار …
نتفكر ونتأمل في هذا الإنسان الذي هو وحده عالم عجيب من العوالم التي أبدعها الخالق سبحانه ..
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} ق:6، وقال جل شأنه: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ ‏رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} الغاشية:17-20 وقال سبحانه: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الذاريات، 20،21.

التفكر في الآلاء والنعماء
إن نعم المنعم الكريم على العباد كثيرة عظيمة، قال سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إبراهيم:34.
ومن نعمه سبحانه علينا ما مدَّنا به من أعضاء وجوارح: عينين نبصر بهما؛ وأذنين نسمع بهما؛ ويدين نبطش بهما؛ ورجلين نمشي بهما؛ ولسانا ننطق به.. وهي وغيرها تعمل بأمر خالقها وحده، وتستجيب له طاعة له وحده؛ فلو شاء أن تتوقف عن وظيفتها كان له ذلك؛ فإنما هي جند من جنوده جعلها في خدمتنا ولا تأتمر إلا بأمره.. فكيف ننسى هذه النعم ولا نتفكر فيها، وكيف نغفل عن خالقها وواهبها، وكيف لا نشكره عليها، بل كيف نعصيه بها؟! إن الإنسان لظلوم كفار.
ومن نعمه أيضا، أنواع الطعام والشراب التي ندفع بها آلام الجوع والعطش، ونحفظ بها حياتنا ونتلذذ بها.. هلا تفكرنا فيها؟!
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} الواقعة63-67.
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ، لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} الواقعة68-70.
وقال جل شأنه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} عبس:24-32.

التفكر في إحسانه إلينا وجفائنا له
إن ربنا جل وعلا وهو القوي الغني عنا وعن جميع خلقه؛ يتقرب ويتحبب إلينا، نحن الضعفاء الفقراء إليه، بإحسانه إلينا .
ومن إحسانه؛ أنه لا يعجل لنا العقاب على ذنوبنا؛ بل يمهلنا عسانا نرجع ونتوب؛ وإذا تبنا قَبِل توبتنا ومحا ذنوبنا بل وبدَلها حسنات .
قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} الشورى:25.
وقال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الفرقان.70
ومن إحسانه إلينا أنه يجازينا على الحسنة بعشر حسنات ويضاعف الأجر لمن يشاء، ولا يجازي على السيئة إلا بسيئة واحدة. بل إنه يكتب الحسنة حسنة لمجرد الهم بها، وإن لم تُعمل؛ ويكتب السيئة حسنة لمن هم بها وتراجع عنها خوفا منه سبحانه وتعالى .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة)1. (وفي رواية:( أو محاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك.2
ما هذا الجود والكرم؟!
وما هذا الإحسان؟!
فهلا تفكرنا في هذه المعاملة الربانية الرحيمة؟!
وهلا تفكرنا في جفائنا له مقابل ذلك الإحسان كله؟!

ثمار التفكر
إن الذي يتعبد لله جل وعلا بالتفكر في خلقه وآياته القرآنية والكونية، وفي نعمائه وإحسانه وآلائه، وفي غير ذلك من مواضع التفكر؛ لاشك أنه سيخرج من محراب هذه العبادة بفوائد جليلة وثمار يانعة، منها:
تعظيم الله تعالى وتقديره حق قدره؛ فيلجأ إليه موحدا عابدا خاشعا متذللا، خائفا من بطشه راجيا رحمته، وهو يردد بقلبه ولسانه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.

التواضع لخالقه جل جلاله؛ إذ يعرف قدر نفسه ويدرك أنه ضعيف ذليل لا حول له ولا قوة إلا بالله، وأنه عالة عليه سبحانه، لا يملك لنفسه خيرا ولا شرا ولا حياة ولا فناء …
فإذا أدرك ذلك فإنه لا يغتر ولا يتكبر على الله وعباده بشيء أعطاه الرب الكريم إياه، من مال أو جاه أو سلطة أو قوة أو علم …
فإنه لا يغتر ولا يتكبر إلا جاهل أعمى البصر والبصيرة، لا يبصر ولا يتفكر في آيات الله تعالى.
قال الحق سبحانه: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}عبس، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} الانفطار.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (غره والله جهله).3

محبته تعالى، وشكره على نعمه وإحسانه بالاجتهاد في طاعته والتقرب إليه وإرضائه، فينال بذلك خيري الدنيا والآخرة .
ــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1- رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت حسنة وإذا هم بسيئة لم تكتب . رقم الحديث: 207
2- نفسه، ح: 208
3- تفسير ابن كثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *