التخلية وضرورتها لتحقيق التزكية

أمرنا الله عز وجل أن نزكي أنفسنا فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) أي: أفلح من طهر نفسه.
والتطهير يكون بإبعاد جميع الأوبئة الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والعقائدية وغير ذلك، وإحلال محلها مضادات لها، وهذا ما يسمى بالتخلية.
فالتخلية ضرورة حتى يزكو ما عندك -عبد الله- من خير حليت به نفسك، فكل شيء وقع في النفس (أي من الخير)، وحليت هذه النفس به بدون التخلية من الأوضار لا ينتفع به.
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “فمتى خلصت الأبدان من الحرام وأدناس البشرية التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة، وطهرت الأنفس من علائق الدنيا، زكت أرض الخلق فقبلت بذر العلوم والمعارف”.
وهذا فيه تدليل واضح على أهمية تنظيف النفس ومباشرة التحلية أيضا، وأن جميع ما تتبعه في نفسك من أفكار ومفاهيم وأخلاقيات وعبادات وعقائد وغير ذلك لا بد أن يكون هناك عملية أخرى هي عملية التحلية، وإلا لن يترعرع الذي نميته في نفسك وغرزته في ذاتك في تعاليم تربوية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومطالعة العيب من السائر إلى الله عز وجل مهم جدا في إصلاحه، لأنه إذا استشرف الكمال وظن بنفسه أنه بلغ المجد في النواحي التربوية والتزكوية والأخلاقية وغير ذلك، فلا شك أن ذلك سيحدث عنده غرورا، ويولد هذا آثارا سيئة على شخصيته: نفسيا وأخلاقيا، واجتماعيا وغير ذلك.
كما أن مطالعة عيب النفس هو ثاني جناحي الإنسان وهو يسير إلى الله تعالى، والجناح الآخر مطالعة النعم التي هي نازلة عليك وأعظمها نعمة الاستقامة.
فلا بد من مطالعة هذه النعمة، وأن تستحضر أن الله سبحانه وتعالى اختارك من بين سائر أهل الأرض فمنَّ عليك بهذه النعمة، وما أعظمها من نعمة، ثم تطالع النعم الأخرى سواء أكانت محسوسة، أم كانت معنوية بجميع أنواعها ومفرداتها.
قال ابن القيم رحمه الله: “من أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وهوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده”.
والنفس فيها من الأمراض وفيها من الأوبئة السلوكية، وفيها من المفاسد الأخلاقية أشياء وأشياء، فلا بد حينئذ من التخلية، أن يخلي الإنسان جميع ما علق بنفسه روحا وعقلا وجسدا وجميع المعايب والمثالب سواء تعلقت بأمر الدين، أم تعلقت بالمروءات، فلا بد حينئذ أن يفهم قاعدة التخلية حتى يحقق المراتب الزكية التي يريدها كل عاقل وذو إرادة قوية عالية.
فالتخلية ليست ذا مجال واحد مجالها العقل فقط، أو مجالها الروح فقط، أو مجالها فقط أمر الديانة؛ إنما التخلية تسير عبر المجالات كلها، التربوية والتزكوية وتسير أيضا في الروح والعقل والجسد، والنبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة في كل ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم يربي جسده وينميه ببعض الرياضات المتاحة في زمنه صلى الله عليه وسلم كرياضة مقارعة العدا ومصاولتهم بالجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام..
كذلك رياضة الرماية، كذلك رياضة المسابقة بالقدم، أو بالساقين، وهذا كله مما يريض الجسد.
كذلك المجال العقلي سواء كان بمعرفة المعارف العامة والتجوال فيها، ومحاولة تحريك الذهن فيها.
كذلك الحكم في المواقف الآنية والتي لها آثارها العامة والكبرى في المستقبل.
كل ذلك أيضا يتعلق بتربية العقل، ثم تحليته بما أمر الله، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم.
كذلك ينبغي أن تكون التخلية في جميع مجالاتها أيضا، سواء كان متعلقا بالمجال السلوكي وما أكثر الأخلاق الطائشة المنحرفة التي ربي عليها الإنسان وهو في غير حضيرة الاستقامة، أو ربما في أسرته، ثم هداه الله عز وجل وانفتحت عيناه على الخير، وعلم ما كان فيه غواية هو ومن معه في البيئة الأولى وهي الأسرة، فينبغي حينئذ أن يسعى أيضا في تطهير نفسه وتخليتها في الأوبئة الخلقية والسلوكية في جميع مجالاتها.
كذلك المجال الاجتماعي: العلاقات الاجتماعية بينه وبين جيرانه وذي رحمه والموظفين إن كان موظفا، والأصدقاء.. فلا بد حينئذ أن ينظر أيضا نظرة أخرى في علاقاته الاجتماعية.
كذلك ينظر في المجال النفسي، يدخل فيه أيضا التحليل والتدليل والأفكار والمفاهيم، وكم من مفهومية مغلوطة حملها الإنسان من ماضيه السيئ ومضى قدما في طريق الاستقامة لا ينوي على تفتيشها والنظر فيها وتقليبها، وهل هي صحيحة في ميزان الشرع، والعقل الصريح إن كانت من أمور الدنيا وغيرها.
فينبغي أن يعمم مبدأ التخلية وهذا هو المقصود فيما نحن بصدده أيضا.
فالإنسان في عملية التخلية التي يقوم بها لا بد أول شيء أن يبذل السبل والطرق في سبيل الوقوف على معايب نفسه وأخطائها.
وأما أن يريد أن يخلي نفسه من معايبها، فهو لا يعرف عيبها ولا يدري أخلاقياتها السيئة وغير ذلك، ولا شك أن هذا من الأخطاء في الفهم قبل أن يكون خطأ عمليا، فلا بد من العلم قبل العمل، وهذا مبدأ موجود في جميع تصرفات الإنسان سواء كانت في التربية أو كانت في الدين، أو كان في غير ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *