الجهل وضعف الإيمان آفات عظيمة إذا استشرت في المجتمع أهلكته وقوضت أركانه ونسفت بنيانه، والاعتقاد في الأضرحة والمزارات والانسياق خلف الخرافات، مرض عضال يميت القلب ويطفئ نور الإيمان ولا يزيده إلا تعلقا بالأوهام وبعدا عن الرحمان، يقول الله تعالى: “وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ” إبراهيم: 30، ويفتح الباب للشيطان ليزين للعبد عمله القبيح ويستدرجه لأعظم الذنوب وأخطر الآثام ألا وهو الشرك والعياذ بالله، يقول الله عز وجل: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللَّهُ” النساء:16-18.
وهذا هو دأب إبليس –نعوذ بالله من شره- منذ عهد نوح عليه الصلاة والسلام، وهو إبعاد الخلق عن عقيدة التوحيد وجرهم إلى الشرك وعبادة الصور والقبور والتماثيل، قال رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذاتَ يومٍ في خطبتِه: “ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني، يومي هذا كل مالٍ نحلتُه عبدًا حلالٌ، وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمتُ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل بهِ سلطانًا ” صحيح مسلم: 2865.
يقول ابن منظور: ” فاجتالتهم الشياطين: أي استخفتهم فجالوا معهم في الضلال.. ” لسان العرب: 3/244.
وقد ورد في تفسير ابن كثير: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا.. لأن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض..” تفسير القرآن العظيم: 1/570.
وتتخذ ظاهرة التوسل بالأضرحة والقبور عدة مظاهر من بينها الذبح وتقديم القرابين والنذر لها، يقول الله عز وجل: “وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ” الحج: 30، 31، والتمسح والطواف بها وطلب النفع ودفع الضرر منها، يقول الله تعالى: “وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ” يونس: 106، والاستجارة بها من الجن والعين والحسد، والاستغاثة بها في تدبير أموره الدنيوية وتيسير شؤونه المستقبلية، يقول الله تعالى في محكم ذكره: “فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ” الأحقاف: 28.
وكل هذه الاعتقادات الباطلة، إنما هي في واقع الأمر طعن في عقيدة التوحيد ونسف لحقيقة التوكل على الله واجتثاث لأصول الإيمان به عز وجل، وتأصيل لأسس الشرك واستنبات لبدعه، ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة التوكل والاستعانة بالله تعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنه أنه ركِبَ خلفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومًا، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : “يا غلامُ إني مُعَلِّمُكَ كلماتٍ احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ، وإذا سألتَ فلتسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضروك لم يَضروك إلا بشيٍء قد كتبهُ اللهُ عليك. رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ” مسند أحمد: 4/233.
ويعزز القرآن الكريم ذلك، في كون المعنى الحقيقي للعبودية لله تعالى أن يتوجه المسلم بكل أقواله وأعماله الظاهرة والباطنة خالصة لوجهه عز وجل دون إشراك غيره فيها، وذلك في قول الله عز وجل: “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” الأنعام: 162، 163.
والشرك مجانبة للفطرة وتعارض مع الشرع وتكريس للجهل وتقييد لحرية العقل ومنافاة للمنطق، فكيف يعقل من إنسان حي يرزق تتوفر لديه كل أسباب الدعاء والرجاء والتوكل على الله تعالى وحده، أن يتوسل بقبر ميت انقطع عمله من الدنيا، يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ” وحتى وإن صح ذلك مع بطلانه أصلا، فالأحرى والأولى التوسل بقبر أشرف الخلق وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يدعو ربه أن يجنب قبره أي مظهر من مظاهر التوسل والعبادة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اللَّهمَّ لا تَجعَلْ قَبري وثنًا يُعبَدُ” غاية المرام:126، كما ذم من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لعنَ اللهُ اليهودَ والنَّصارَى، اتخذُوا قُبورَ أنْبيائِهمْ مساجِدَ” صحيح الجامع: 5108.
بل أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى ما يقال عند قبور الموتى، فعن أبي موسى الأشعري أن رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يُعلِّمُهم إذا خرجوا إلى المقابر. فكان قائلُهم يقول : “السلام عليكم أهلَ الدِّيارِ، من المؤمنين والمسلمين. وإنا، إن شاء الله، لَلاحقون. أسأل اللهَ لنا ولكم العافيةَ” صحيح مسلم: 975.
ومن حجج القبوريين الواهية لتبرير أعمالهم الجاهلية، قولهم إنما توسلنا بهذه الأضرحة لغرض توسطها لنا بما نطلبه إلى الله تعالى ولتقربنا إليه ولننال بها بركة الصالحين، وهؤلاء هم الذين قال الحق سبحانه فيهم: “أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُو كَاذِبٌ كَفَّارٌ” الزمر:3.
أو قد يقول بعضهم إنما ندعوهم تقليدا واتباعا كما وجدنا آباءنا يفعلون، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: “بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ” الزخرف: 22.
وغالبا ما يتخذ هذا التوسل أشكالا وطقوسا خاصة، تكون في عمومها بدعا وضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي من نزغ الشيطان، كاشتراط نوع خاص من الذبائح ولبس أصناف وألوان خاصة من الملابس، ومواكبة الطقس لأقوال وأفعال مبتدعة، واتخاذ أوقات ومواسم خاصة لتقديم القرابين والنذور، ومصاحبتها بشطحات وطبول ومزامير، وكل ذلك مخالف للشرع، مخل بالأخلاق، مناقض للدين، مسيء للمجتمع، مدعاة للاختلاط والمفاسد.
قال الشيخ صنع الله الحنفي في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: “هذا وإنه قد ظهر الآن بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات.. فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات.. وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور.. وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة.. “.
اللهم اجعل عملنا كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
والحمد لله رب العالمين.