هذه مسألة تحتاج إلى توضيح ولو اختصارا، لأنها مما يقع فيه الاشتباه والخلط في ميادين الدعوة خاصة، فنقول مستعينين بالله:
المطلوب من المسلم أن يدعو إلى الله على بصيرة بالوسائل المشروعة، فإذا أدت هذه الوسائل إلى أذى يصيب المسلم فعليه أن يتقبله بالصبر والثبات.
وإذا كان للمسلم مندوحة من الأذى -أي: يستطيع أن يتوقاه، ولا يجب عليه أن يقابله- فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال… فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، لأن الابتلاء صعب على النفس، فلا يجوز الحرص عليه ولا الرغبة فيه، لأن فيه فتنة مجهولة العاقبة، وقد يحس المسلم من نفسه القدرة على الثبات، ومن تم لا يبالي بالابتلاء، بل ربما رغب فيه إما طمعاً بثواب الله، وإما لتدخل وسوسة الشيطان ليُقال عنه: ما أثبته وما أصبره على البلاء! فإذا نزل البلاء ضعف عن الاحتمال ووقع في الافتتان…
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ -يقصد مشايخ الصوفية-: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تفعلون كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ).
وفي الترمذي -وما زال الكلام لشيخ الإسلام- أن بعض الصحابة قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لو علمنا أحب العمل إلى الله لعملناه، فأنزل الله هذه الآية.
وقد قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ).
… فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبوه لما ابتلوا كرهوه وفروا منه، وأين ألم الجهاد من ألم النار؟ وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به؟!
ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون المحب أنه يقول:وليس لي في سواك حظ * * * * فكيفما شئت فاختبرني
أخذه العُسُر من ساعته -أي: حُصر بوله- فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول: أدعو لعمكم الكذاب” مجموع الفتاوي.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيباً وقال:
“يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا”.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قال ابن بطال: حكمة النهي أن المرء لا يعلم ما يؤول إليه الأمر، وهو نظير سؤال العافية من الفتن، وقد قال الصديق رضي الله عنه: لأن أعافى فأشكر أحب إليّ من أن أبتلى فأصبر، وقال غيره: إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب، والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم” فتح الباري.
وقد أذن الله للمُكْره أن يقول كلمة الكفر تخليصاً لنفسه من الأذى والتلف، وهذا يدل على إباحة دفع البلاء، وأن للمسلم أن لا يساعد على وقوعه عليه.
وفي السيرة الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم ير بأساً من عون عمه أبي طالب -وكان على دين قومه- في دفع ما يستطيعه من أذى قريش، لأنه لم يكن في عشيرته وأعمامه حام ولا ذاب عنه غيره.
ووجه الدلالة من هذا الصنيع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رضي بحماية عمه أبي طالب له ودفعه الأذى عنه، فدل ذلك على جواز دفع البلاء والأذى عن الداعي إلى الله ولو عن طريق حماية المشرك –ضمن شروط شرعية معلومة– وعدم استحباب تسليم المسلم نفسه لأهل الباطل.
وكذلك فعل أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين هاجروا إلى الحبشة، فعندما رجعوا إلى مكة لم يدخل أحد منهم إلا في جوار أو مختفياً.
ويجب أن يعلم أن الداعي المسلم في رغبته وسعيه لدفع البلاء والأذى عن نفسه إنما يقصد التمكين وإيجاد الجو المناسب لدعوته إلى الله تعالى، يوضح ذلك ما جاء في السيرة الصحيحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى القبائل أيام المواسم ويدعوهم إلى الإسلام ويقول: “مَن رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي“.
وخلاصة القول في استدعاء البلاء ودفعه بعد هذا العرض أنه مرتبط بأمور ثلاثة وهي:
الأول: أن الأذى أو الضرر الذي يلحق بالمسلم بمنزلة الأمراض والمصائب التي تنزل على الإنسان، فكما أنه لا يرغب فيها، ولا يريد إيقاعها على نفسه، ولا يقدح ذلك في إيمانه، فكذلك لا يقدح في إيمانه عدم محبته -ولا رغبته- في وقوع أذى أهل الباطل عليه، وعدم استدعاء الضرر على نفسه.
الثاني: أن احتمال وقوع الأذى والضرر به لا يقعد به عن دعوته إلى الله، ولكن الداعي لا يستدعي الأذى لنفسه بل يعمل على عدم وقوعه، وإذا وقع عمل على دفعه بكل وسيلة مشروعة في ضوء ما جاء في الكتاب والسنة.
الثالث: إذا وقع الأذى والضرر عل المسلم بالرغم من التزامه بالسير المشروع في الدعوة إلى الله تعالى فعليه أن يستعين بالله، ويصبر ويحتسب، ويصبر الصبر الجميل، وليعلم أن الأمور بيد الله تعالى، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.