وصى الله تعالى عباده ببر الوالدين والإحسان إليهما وطاعتهما فيما يرضيه عز وجل، وجعل هذه الطاعة من آكد الطاعات وأعظم العبادات، يقول تعالى ذكره: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً” العنكبوت:8، فالخطاب في هذه الآية موجه إلى عامة البشر دون تخصيص، وذلك لعموم فضل الوالدين وشموله الأولاد في كل زمان ومكان وسواء كان الوالدان مسلمين أو غير مسلمين، فتجدهما أحرص الناس على العناية بأبنائهم وتربيتهم ودرء الأذى عنهم، فهذه غريزة فطرية أودعها الله تعالى في قلوب البشر دون استثناء، بل حتى في قلوب الحيوانات، إلا أن الإسلام قد أولى أهمية كبرى لهذه الطاعة وحث على التحلي بخلق البر والإحسان إلى الوالدين، وأولى بر الوالدين أهمية عظمى لم يسبق إليها.
ومما يبرز مكانة هذه الطاعة ومنزلتها العالية في الإسلام، أننا كثيرا ما نجد أن الله عز وجل في كتابه العزيز قد قرن وأعقب الأمر ببر الوالدين والإحسان إليهما مباشرة بعد النهي عن الشرك به والأمر بتوحيده عز وجل، يقول الله تعالى: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً” البقرة: 83. ويقول عز وجل: “قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً” الأنعام:151. ويقول عز من قائل: ” َقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً” الإسراء:23.
فيكون الإحسان إلى الوالدين من أعلى مراتب الإيمان وأسمى منازل التقوى بعد توحيد الله تعالى وعدم الشرك به، يقول الإمام القرطبي: “وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني -وهو التربية- من جهة الوالدين..” الجامع لأحكام القرآن 2/13.
ولا تجوز طاعتهما فيما يغضب الله عز وجل، وإنما تكون الطاعة والبر في المعروف، يقول الله تعالى: “وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” العنكبوت: 8.
ويضرب لنا خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في حسن معاملته لأبيه لما دعاه إلى توحيد الله تعالى وعبادته، فلما رفض الأب وأعرض عن دعوة ابنه، لم يعنفه الولد ولم يرفع صوته ولم يدع عليه، وإنما هجره هجرا جميلا؛ بل لجأ إلى الدعاء والاستغفار له، عسى الله تعالى أن يهديه سبيل الرشاد، يقول الله تبارك وتعالى: “قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا” مريم 46-47.
ويقول تعالى: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ” الممتحنة:4.
ومع أن بر كلا الوالدين واجب في الدين، فإننا نجد أن الإسلام قد فاضل بين الأم والأب في درجة البر، فنجد أن حق الأم في إحسان أبنائها إليها أعلى وأرفع مرتبة من حق الأب، ولم لا وهي التي تحملت مشاق الحمل تسعة أشهر وتكبدت آلام المخاض والولادة والنفاس، واحتملت عبء الرضاعة فضلا عن حرصها المستمر على نظافة وصحة ونوم أبنائها إلى أن يصيروا يافعين قادرين على الاعتناء بأنفسهم، يقول الله تعالى: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً” الأحقاف15. ويقول عز وجل: “وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ” لقمان: 14.
وفي السنة، جواب النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن أحق الناس بحسن صحابته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ: “أُمُّكَ ” قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ أُمُّكَ ” قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ أُمُّكَ” قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: “ثُمَّ أَبُوكَ”. صحيح البخاري:5524، كتاب: الأدب، باب: من أحق الناس بحسن صحابتي .
وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: “أُمُّكَ حَّيَة؟” فقلت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِلْزَمْ رِجْلَها فَثَّمَّ الْجَنَّة” حسنه الألباني في صحيح الترغيب 2484.
وكما أكد الإسلام على حسن معاشرتهما والشكر لهما وصلتهما وطاعتهما في المعروف والدعاء لهما حيين وميتين وإكرام أصدقائهما وخفض جناح الذل لهما، فقد نهى أشد النهي عن عقوقهما أو التخلي عنهما أو الإساءة إليهما من قريب أو بعيد، خاصة عندما يبلغا الكبر ويصيرا عاجزين عن قضاء حوائجهما الضرورية، من مطعم وملبس ونظافة وغيرها، فيكونا في هذه الحالة أحوج، من أي وقت مضى، لرعاية أبنائهما وخدمتهم لهما، والصبر على ذلك أجره عظيم عند الله تعالى، يقول عز وجل: “إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً” الإسراء: 23. يقول ابن كثير: “أي: لا تسمعهما قولا سيئًا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، “وَلا تَنْهَرْهُمَا” أي: ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: “وَلا تَنْهَرْهُمَا” أي: لا تنفض يدك على والديك” تفسير القرآن العظيم 5/64.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوكِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ” رواه مسلم ح/2551، ومعنى رغم أنفه أي لصق بالتراب من الذل. لسان العرب لابن منظور12/245.
فبادر أيها القارئ الكريم إلى اغتنام هذا الخير، ولا تضيع هذه الفرصة فقد تكون سببا في دخولك الجنة.
أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على بر والدينا والإحسان إليهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.