منذ اللحظات الأولى التي يولد فيها الإنسان ويطأ فيها الوجود؛ يبدأ العد التنازلي لحياته، ويوما بعد يوم يقترب من أجله، إلى أن يلاقي الموت مع آخر ورقة في عمره… ولا يستطيع الإنسان –أي إنسان– مهما بلغت قدراته وإمكاناته وسلطانه أن يفر من الموت “قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ” الجمعة:8، فالموت آية من آيات الله قهر بها عباده “نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” الواقعة:60.. بل وتحداهم سبحانه وتعالى بها فقال: “فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” الواقعة:83-87..
لحظة عصيبة
إنها لحظات عصيبة تلك التي يرى الواحد منا فيها ملك الموت، وقد جاء لقبض روحه، ومن خلفه إما ملائكة الرحمة وإما ملائكة العذاب…عندها سيتأكد أن الأمر جدٌ لا هزل فيه “إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ” الطارق:13-14.. وستصبح أمنيته الوحيدة العودة مرة أخرى إلى الدنيا لا لشيء إلا للتوبة والعمل الصالح “حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ” المؤمنون: 99-100.
بين النوم واليقظة
ليتخيل كل منا نفسه في هذا الموقف الرهيب وهو يتمنى أن يُمنح مهلة للعودة إلى الدنيا -ولو للحظات- ليصلح فيها ما أفسده، ويعيد فيها كل حساباته.. فيُرفض طلبه، وتُقبض روحه، ويأتي المغسل فيغسله ويكفنه، ثم يحمله الأهل والأصحاب إلى المسجد فيصلون عليه، وبعدها يذهبون به إلى قبره فيضعونه في حفرة ضيقة، ثم يغلقونها عليه بالتراب وينصرفون عنه فيصبح وحيدًا في بيته الجديد الذي كان ينادي عليه كل يوم قائلا: أنا بيت الدود، أنا بيت الوحدة، أنا بيت الوحشة… هذا ما أعددت لك فماذا أعددت لي؟!
شريط الذكريات
ليتخيل كل منا نفسه بعد أن فوجئ بالظلمة والوحشة والضيق، وهو يستعرض شريط ذكرياته في الدنيا وحجم الأعمال الصالحة التي قام بها ولماذا لم يجد لها أثرًا واضحًا في حياته البرزخية؟
يبدأ بالصلاة فيقول: أين أثر صلاتي؟!
لقد صليت كثيرًا فلماذا لا أكاد أجد أثرًا لذلك؟!
فيتذكر أنه كان لا يحافظ عليها في أول وقتها، بل كان يصلي أغلبها وسط ضجيج الأطفال وصوت المذياع والتلفاز، وفي حالة أدائها بالمسجد يكون الذهن مشغولا بموضوعات شتى، وكم من المرات كان يُفاجأ بالإمام وهو يسلم تسليمة الختام؟
فإذا به يخاطب نفسه:
إذن فما سمعته عن الصلاة كان صحيحًا من أنه: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها..
فالقلب هو محل نظر الله سبحانه وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
أين أثر الصيام؟
فيتذكر الواحد منا كيف كان يمر عليه شهر رمضان وكيف كان مفهومه للصيام فيقول: لقد كان همي وفكري في كيفية انقضاء ساعات اليوم، فالامتناع عن الطعام والشراب كان أمرًا شاقًّا عليّ، لذلك كنت أعمل جاهدًا على شغل وقتي بما يلهيني عن التفكير فيهما، فأنام أغلب النهار، وأقضي الوقت المتبقي في مشاهدة التلفاز وما فيه من أعمال تُغضب الله عز وجل.
لقد سمعت كثيرًا وأنا في الدنيا أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه “رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش”.
و”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
وكأني تناسيت هذا كله، فلم أترك الغيبة والنميمة في رمضان، ولم أغض بصري عما حرم الله.
القرآن هو الأمل
إذا كان هذا هو حال الصلاة والصيام فليكن أملي في القرآن..
أين هو؟!! لقد قرأته وختمته مرات ومرات.. فلماذا لا أجد أثره؟!
نعم تذكرت، لقد كنت أقرأه وأنا مشغول البال، شارد الذهن، فلم أتدبر معانيه، ولم أقف عند أحكامه وحدوده، ولم أتخذه مصدرًا للهداية والشفاء.
ومما يزيدني ألمًا وحسرة؛ أنني كنت أسمع وأنا في الدنيا الكثير من الآيات والأحاديث التي تحثني على تدبر القرآن والتأثر به لتحصيل الهدى والشفاء، وتذُم من يقرؤه وهو غافل، كقوله تعالى: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ” ص:29، وقوله سبحانه: “أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا” محمد: 24، وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف فليضطجع”، وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: “لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث”.
رصيد الحسنات
ثم ليتخيل كل منا نفسه وهو يحاول أن يتذكر أي عمل صالح قام به فلا يجد إلا اليسير، وفي المقابل؛ يجد أن رصيده من السيئات كبيرًا، فيتذكر حاله مع والديه، كيف كان يعاملهما، وبخاصة عند كبر سنهما، وازدياد حاجتهما إليه…
لقد نسينا ما فعلوه من أجلنا ونحن صغار حتى أصبحنا رجالا ونساء نحمل الشهادات ويُشار إلينا بالبنان، ولولاهما -بعد فضل الله عز وجل- لكنا غير ما كنا.. وبدلا من برهما، والعمل على رد بعض جميلهما كان جزاؤهما غلظة في الكلام وسرعة الضجر والضيق من أفعالهما، وعدم تلبية طلباتهما.. لنتذكر ذلك وليقل كل واحد منا لنفسه: أنا لم أفكر يومًا في إدخال السرور عليهما، بل أسقطهما من حساباتي، وتناسيت حقوقهما عليَّ… لقد أغلقت بيدي بابًا عظيما من أبواب الخير.
ثم لنتذكر الأقارب من أشقاء وأخوال وأعمام وفروعهم، ونتذكر كيف كانت صلتنا بهم محدودة، إن لم تكن مقطوعة، فيقول الواحد منا لنفسه: لقد كنت أسمع كثيرًا عن أهمية صلة الرحم، وأنها تُبارك العمر وتُنمي الرزق، ولكني تغافلت عن ذلك الخير العميم، خوفًا مما قد يكلفني من مال ووقت، وياليتني ما فعلت ذلك.. لقد كانت مقاييس السعادة مختلة عندي.. كنت أظنها في جمع المال والاستمتاع بالحياة دون النظر للوظيفة العظيمة التي خلقنا الله عز وجل من أجلها.
لقد لهثت وراء الدنيا أجمع المال.. لم أفكر يومًا في الإنفاق على الفقراء والمساكين خوفًا من الفقر.
ذكريات مريرة
.. لم أتزوج من تعينني على أمر ديني، بل بحثت على من هي على شاكلتي فأعانتني على أمر دنياي، وقامت بتربية أولادي على أمر الدنيا، والحرص على مصالحهم الشخصية فقط، فلا بأس من الكذب إن كان يؤدي إلى تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ولا مانع من وضع المال الزائد عن حاجتنا في بنك ربوي طالما أن ذلك يصب في مصلحتنا ويزيد من رأس مالنا..
.. لم أفكر يومًا في أمر زوجتي بالزي الشرعي السابغ الفضفاض الذي لا يصف ولا يشف.. لم أمنعها من الاختلاط بالرجال، وكثيرًا ما كانت تستقبل معي الأصدقاء.
.. كنت أنام حزينًا مكتئبًا عندما ينهزم الفريق الذي أشجعه، ولم تهتز لي شعرة أو تسقط مني دمعة عندما تبلغني مصيبة من المصائب التي حلَّت بالمسلمين..
.. لم أفكر يومًا في أحوال المسلمين، وما يعانون من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد، مع أن الأبواب كانت أمامي مفتوحة لمد يد العون إليهم..
أي غفلة كنت غارقًا فيها؟ والملكان الموكلان بي يسودان الصفحات، ويحصيان عليَّ كل شيء لحظة بلحظة، ويوما بيوم، وإذا ما ذكَّرني أحد بذلك غرقت في بحر الأماني بأن الله غفور رحيم، ويكفيني أن أحج البيت الحرام بعد بلوغي سن التقاعد فأعود من ذنوبي كيوم ولدتني أمي….
ويا لها من سذاجة. (من كتاب:رب ارجعون؛ بتصرف).