كل العباد في حاجة إلى لُطف الله تعالى ورحمته في السر والعلانية في الشدة والرخاء، في الخوف والطمأنينة فهو الغني ونحن الفقراء إليه، وقلوب الخلق تتوق إلى كرم الله عز وجل وعطائه الذي لا ينفد ولا ينقطع، فتتجسد هذه الحاجة ويتجلى هذا التعلق في صنوف العبادات وأنواع الطاعات التي يتقرب بها العبد إلى بارئه.
ومن بين أعظم هذه العبادات إظهارا لاحتياج العبد لربه وأكثرها ربطا وصلة به عز وجل وتجسيدا لعبوديته، هناك الدعاء، حتى إننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ساوى بين الدعاء وبين العبادة بل جعله هو العبادة كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حين قال: “الدُّعاءُ هو العبادةُ، ثمَّ قال: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” غافر:60، سنن الترمذي:3247 (حسن صحيح(، فالدعاء يحمل معاني كثيرة، ويتضمن فضائل جليلة، نجمل بعضها في هذه الإشارات:
الدعاء توفيق وإلهام من الله تعالى: الله عز وجل هو الهادي إلى الطاعة وهو المرشد إلى العبادة، يقول الله تعالى: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ” الفاتحة:5-6، فطوبى لعبد رزقه الله تضرعا دائما إلى الخالق عز وجل.
الدعاء كرم وتفضل من الله تعالى على العبد: كثيرا ما يقع العبد في خطأ قد يجره إلى سوء الظن بالله تعالى أو التسخط على حكمه، وذلك باعتقاده أن دعاءه وطاعته لله تستلزم من الله عز وجل الاستجابة الفورية والحتمية، وهو يغفل بذلك أن هذه الاستجابة إنما هي تكرم من الله عز وجل وتفضل عليه، فهو المدبر والرزاق إن شاء أعطى وإن شاء منع، وهذا يدخل في صلب الإيمان، والتسليم بمشيئته وقدرته، كما قد يغفل هذا العبد أن عدم الاستجابة له قد يكون سببها مانع من موانعها، أو أن الله تعالى قد صرف عنه بها مصيبة أو ادخرها له في الآخرة.
الدعاء اعتراف بنعم المُنعِم: وهذا باب عظيم من أبواب دوام النعم، وحفظها من الزوال، وهو يتضمن بذلك معاني الحمد والشكر، والاستزادة من الفضل والخير، فهذا يوسف عليه الصلاة والسلام يثني على الله تعالى بما أنعم عليه ويختم ثناءه بدعاء صالح، يقول: “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” يوسف:101.
الدعاء دليل الطاعة التامة والخضوع الكامل لله تعالى: وهذا هو صلب العبادة وروح الإسلام، ما دام تجسيدا صادقا للاستسلام إلى الله تعالى، والانقياد التام له، يقول الله سبحانه: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” الأنبياء:90.
الدعاء ملجأ كل مكروب وملاذ كل مهموم: ولعل أدل مثال على ذلك دعوة يونس عليه الصلاة والسلام وهو في بطن الحوت في أحلك المواقف وأشد الكرب، فيصدح باستغاثة مُسبِّح مكروب، يقول الله تعالى: “فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ” الأنبياء:87-88. وكذلك الحال مع زكرياء عليه الصلاة والسلام: “وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ” الأنبياء: 89-90.
الدعاء استشعار بقرب الله تعالى من العباد: أجل إحساس وأسمى شعور أن تجد روحك ترتقي إلى الله تعالى بالدعاء في جوف الليل، في سجدة تناجي فيها الخالق عز وجل، في لحظة خشوع وانشراح قلب وإقبال نفس وصفاء روح، فتستشعر قرب الله تعالى منك يسمع دعائك ويرى تضرعك ويعلم توسُّلك إليه، يقول الحق سبحانه: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” البقرة: 186.
الدعاء برهان على حسن الظن بالله تعالى والوثوق به: وهذا يدخل ضمن شروط تحقق الاستجابة، فيدعو العبد ربه بقلب صادق ونية خالصة، واثقا في قدرة الله تعالى وكرمه، راضيا بما قسمه الله تعالى له، موقنا بعدل الله عز وجل، واستجابته للداعين المخلصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ اللهَ جلَّ وعلا يقولُ: “أنا عندَ ظنِّ عبدي بي إنْ ظنَّ خيرًا فله وإنْ ظنَّ شرًّا فله” صحيح ابن حبان:2134، وشواهد ذلك كثيرة من سِيَر الأنبياء والصحابة والصالحين، يقول صلى الله عليه وسلم: “ادعوا اللَّهَ وأنتُم موقِنونَ بالإجابَةِ، واعلَموا أنَّ اللَّهَ لا يستجيبُ دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ” صحيح الترمذي:3479 (حسن(.
الدعاء كله خير: ويتجلى ذلك في نيل الأجر والثواب عليه ابتداء لأنه عبادة كباقي العبادات، زيادة على ذلك فخيره لا يخلو من فوائد ثلاث: إما استجابة في الدنيا، وإما دفع لمصيبة، وإما ادخار للآخرة، يقول صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلمٍ يَدْعُو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ؛ إلا أعطاه اللهُ بها إحدى ثلاثٍ: إما أن يُعَجِّلَ له دعوتَه، وإما أن يَدَّخِرَها له في الآخرةِ، وإما أن يَصْرِفَ عنه من السُّوءِ مِثْلَها، قالوا: إذَنْ نُكَثِّرُ؟! قال: اللهُ أكثرُ” تخريج مشكاة المصابيح: 2199 )إسناده صحيح(.
ومن شروط استجابة الدعاء تحري أوقات الاستجابة ومنها، جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الزحفين، وعند السجود، والمطعم الحلال..، كما على العبد الالتزام بمجموعة من الآداب والأخذ بعدد من السبل قبل الدعاء وأثناءه وبعده، والتي من شأنها تحقيق القبول والاستجابة، عملا بما جاء في القرآن الكريم وما أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:
الدعاء بأسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى: يقول الله تعالى: “وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الأعراف: 108.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: عن فَضَالَة بْنَ عُبَيْدٍ قال: (سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ).. الترمذي:3424.
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : (إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم).
الدعاء ثلاثا: ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود الطويل، وفيه: فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال: “اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش” صحيح مسلم: 1794.
الإلحاح: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أَلِظُّوا بياذا الجلالِ والإكرامِ” صحيح الجامع:1250، ومعنى ألظوا، أي: ألِحُّوا.
الصبر: يقول الله تعالى:”وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ” الكهف:28، يقول ابن كثير: “اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء” تفسير القرآن العظيم:5/153.
اللهم ألهمنا التضرع إليك في الشدة والرخاء، واستجب دعاءنا في السر والعلن، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.