خلق الله تعالى هذه الأرض بأنهارها وجبالها وهوائها طيبة طاهرة، يقول الله تعالى: “وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” ق:7، وجعلها مهيأة وصالحة للإنسان وذريته من بعده لتكون لهم مأوى ومستقرا، وقد مكنهم تعالى فيها يتبوؤون منها حيث شاءوا، يقول الله عز وجل: “وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ” الأعراف:74.
ولفظ بوّأ أوتبوّأ في اللغة مشتق من مادة بَوَأ والتي تفيد معنى تهيئة مكان للاستقرار واتخاذ منزل، ومنها اسم البيئة، يقول أبو الفيض محمد الحسيني: “بوَّأَ (فِيه) وبوَّأَه له بمعنى هَيَّأَه له (أَنْزَلَه) ومكَّن له فيه (كَأَباءَهُ) إِيَّاه،… ويقال: أَبَأْتُ القومَ منزلاً وبَوَّأْتُهم منزلاً إِذا نَزلْتُ بهم إِلى سَنَدِ جَبَلٍ أَوقِبَل نَهْرٍ، والاسْمُ: البِيئةُ، بالكَسْر” تاج العروس من جواهر القاموس 1155/.
ومنه قول الله تعالى: “وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ” يونس:87، وقوله عز وجل: “وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْعِلْمُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” يونس: 93، وقد خلق الله تعالى هذه البيئة بميزان دقيق، يقول الحق تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” القمر:49، وسيَّرها على نظام موزون، يقول عز وجل: “وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ” الحجر:19.
وسخر الله تعالى للإنسان هذه البيئة بجميع ما تحتويه من خيرات مادية وحيوانية ونباتية، وجعل هذه الخيرات آيات واضحات للتفكر في نعمه تعالى، يقول عز وجل: “وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ” المؤمنون:21، ويقول تعالى: “فلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ” عبس:24، وهي كذلك براهين ودلائل للتدبر في عظمته وكرمه وبالتالي حمده عز وجل على ذلك.
يقول تعالى: “وَهُو الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” النحل:14 ويقول عز وجل: “وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ” الأعراف: 10.
ويعد الماء أهم عنصر من عناصر هذه البيئة إذ يعتبر مصدر الحياة، وبدونه لا يمكن استمرارها فهو بمثابة نعمة لا تقدر بثمن ولا غنى عنها، ويشهد على ذلك كثرة الآيات التي وردت في ذكر منفعته وأهميته يقول الله تعالى: “أوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ” الأنبياء: 30، ويقول عز وجل: “وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ” الحج: 5. ويقول الله تعالى: “وَهُو الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” الأنعام:99.
ويذكرنا الله تعالى بقدرته على الذهاب بهذا الماء، حتى يزداد حرصنا على شكره عز وجل عليه والمحافظة عليه وعدم تضييعه، يقول تبارك وتعالى: “وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ” المؤمنون: 18، ويقول تعالى: “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ” الملك:30، ويذكر القرآن الكريم في غير ما موضع، باقي مكونات البيئة الأخرى من أنعام ورياح وأشجار وغيرها، موضحا أهميتها وفوائدها الكثيرة، يقول الله تعالى: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ” يس:71-72، ويقول عز وجل: “اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ” الروم:48، ويقول تعالى: “الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ” يس:80.
وكما أنعم الله تعالى على الإنسان بجميع هذه العناصر البيئية وما تتضمنه من خيرات فقد حمله في ذات الوقت مسؤولية الحفاظ عليها، لكي تستفيد منها الأجيال اللاحقة وحتى يتم توظيفها فيما يرضيه عز وجل، يقول الله تعالى: “لقدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ” سبأ:15- 16-17.
كما رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في إعمار الأرض وإصلاحها وإحيائها وتهيئتها للمنفعة الخاصة والعامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة” صحيح البخاري:2195، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُو أَحَقُّ” وفي رواية: “مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ”، صحيح البخاري:2335.
ومن مظاهر الحفاظ على البيئة والعناية بها، الحرص على نظافتها وظهورها بمظهر لائق وإماطة الأذى عنها وتوعية الناس بذلك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَو بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ”، الأدب المفرد للبخاري:595.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ” شعب الإيمان للبيهقي، رقم:10404.
ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنام آخر لحظة في هذه الدنيا بالغرس واستنبات الأرض ما دامت الفرصة سامحة بذلك، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” رواه الإمام أحمد 3/183-184.
وفي مقابل ذلك نهى الله تعالى عن إفسادها أو العبث بها، يقول الحق تعالى: “وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” الأعراف:85، ويقول عز وجل: “وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ” البقرة:205، كما نهى تعالى عن الإسراف في هذه الخيرات بالتبذير والتضييع، يقول الله تعالى: “وَهُو الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأنعام:141، ويقول عز وجل: “وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأعراف:31.
نسألك اللهم أن تجعلنا من المصلحين في الأرض وأن تصرف عنا فتن الإفساد فيها، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.