إن اجتياز الفاصل العظيم أو الهوة السحيقة بين المحدود واللامحدود، بين الله والإنسان، أمر مستحيل على الصعيد المنطقي والفيزيائي، إلا أنه قد يبدو ممكنا عن طريق الشعور والوجدان، بمعنى أنه إذا كان إدراك الذات عند المؤمن الرباني العارف بالله قد يؤدي إلى إدراك العالم الوجودي كله، بات من البديهي أن يؤكد كثير من رجالات التصوف قدرتهم على العبور مدا وجزرا بين شاطئ الإنسانية وشاطئ التأله.
وإذا أمكن التسليم بأن الحياة، من وجهة نظر معينة، غير يقينية ووهمية، أو تكاد تكون حلما يتراوح بين الفزع والنشوة الخاطفة، وأن هذه التجربة لا تحقق شرطها الوجودي إلا بالموت باعتباره اليقين المطلق، فإن الصوفية انطلاقا من ذلك، يؤكدون مصداقية تجاربهم عروجا نحو المطلق، مقررين بضرب من الحسم على ضوء الحياة الدنيا من جانب، وعلى الوجود الحتمي المطلق الذي يجاهدون للوصول إليه من جانب آخر.
إن الله غير العالم، وإن الخالق غير المخلوق، ومن ثم فالثنائية بين الحق والخلق بديهية من بديهيات الإيمان، وعقيدة يعتقدها كل مؤمن بوجود إله مغاير عن المخلوقين، لكن هذه الثنائية تغيب عن وعي المتصوف عندما يغمره الشعور بالوحدة وتتملكه الرؤية الواحدية، تلك الرؤية الناتجة عن التذوق الخاص، والتجربة الفياضة.
إن الثنائية تتلاشى تدريجيا في شعور الصوفي حتى لا يرى إلا الله وحده هو الموجود، وأن العالم وهم. وهنا تحل الواحدية محل الثنائية في التجربة الصوفية.
ثم إن الصوفي يعي تجربته الصوفية بوصفها سفرا نحو المطلق والأقاصي. وهذا السفر يقوِّمه الصوفي بما يسفر عنه، دون أن يكون الإسفار نهاية للسفر. فهو بداية متدفقة، وتتجدد باستمرار خصوصا إذا كان السفر سفر تيه، ولقد أشار بن عربي إلى هذا المعنى في كتاب «الإسفار عن نتائج الأسفار» ضمن «رسائل ابن عربي» حيث يقول: «الأسفار ثلاثة لا رابع له أثبتها الحق عز وجل، وهي سفر من عنده، وسفر إليه، وسفر فيه، وهذا السفر فيه هو سفر التيه والحيرة».
والتجربة الصوفية في ممارستها تعبير أيضا عن تلبية النداء الروحي لدى أشخاص قادهم التأمل أو الفلسفة أو العزلة أو فهم معين للعقيدة، أو عوامل نفسية واجتماعية، إلى سلوك درب التصوف وممارسة التجربة.
بيد أن هذا النداء الروحي الذي أسفرت عنه تلك التجربة، كان هو نفسه نتيجة من نتائج تضخم الجانب الروحي الذي اعترى المتصوف قبيل الشروع في السفر، أو الإبحار في محيط التجربة الصوفية، وهو ما يتعارض مع مقصد من مقاصد الشريعة المتمثل في إقامة التوازن والاعتدال بين عنصري الروحي والطين داخل الكيان الإنساني.
ثم إن التجربة الصوفية شرط أساسي في كل معرفة أو سلوك صوفي، لأن المعرفة الصوفية لا تستفاد من الكتب، كما أن الأحوال الصوفية لا ترد على أصحابها إلا بعد المجاهدات والرياضات الروحية. ذلك أن المجاهدات الشاقة والرياضات تعتبر أسا من أسس التجربة الصوفية، وهي التي تفضي بالصوفي إلى المقامات والأحوال.
ويرى أهل التصوف أن العلوم المستفادة من التجربة الصوفية والروحية هي علوم ذوقية كشفية، وأن عنصر الكشف فيها، أعلى وأرفع من عنصر العقل. من الكشف من الذي هو طريق العارفين تتوارد علومهم، ومن معدنه يتلقون أنوارها وأسرارها.
ومن ناحية أخرى فإن الحضارات الكبرى عبر التاريخ الإنساني قد عرفت التصوف والتجارب الصوفية، مثل الحضارة الهندية والصينية واليونانية، كما اشتهر ذلك في حضارتنا العربية الإسلامية. كما عرف التصوف عند اليهود والنصارى، واشتهر متصوفتهم بتجاربهم الصوفية. والتصوف يأخذ دائما الخصائص التي تنسجم مع انتسابه لهذا الإطار الحضاري الروحي أو ذاك، إلى جانب جملة من الخصائص والعناصر المشتركة للتصوف.
ترددت كثيرا في كتابة تجربتي الصوفية لأسباب عدة؛ منها أن التجربة الصوفية تعبر عن معاناة وجودية عميقة ومعقدة، وترتبط بفضاءات روحية ونفسية لا محدودة، تستعصي على الوصف والنعت؛ وفي غمار الذوق الصوفي تخرس العبارات، فلا بيان ولا نطق، بل ذهب القوم إلى أن العجز عن التعبير علامة على صدق وعمق التجربة، فقيل: «علامة تجلي الحق للأسرار هو أن لا يشهد السر ما يتسلط عليه التعبير ويحويه الفهم، فمن عبر أو فهم فهو صاحب استدلال لا ناظر إجلال»[1].
وكيف يمكن رصد ووصف وتقييم التجربة الصوفية، المنبثقة من القلب، ذات الأطوار والحالات والتقلبات الغريبة؟
أبمنطق العقل أم بمنطق اللغة؟
فمنطق العقل عاجز عن رصد مسار التجربة الصوفية اللامعقولة، ومنطق اللغة أكثر عجزا عن ترجمة رؤى وأحوال ومقامات لم يعبر عنها أصحابها إلا رمزا؛ وكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، ولما كانت اللغة مصبوبة في قوالب العقل ومعبرة عن واقع الناس وسلوكهم وثقافتهم الملموسة عبر الزمان والمكان، لم تستطع الإفصاح أو التعبير عن تجربة روحية ذوقية تنتمي إلى عالم آخر منفصل عن الزمان والمكان الدنيوي.
وكل ما يقال عن مضمون التجربة في الإدراك ليس هو مضمونها المدرك على الحقيقة، وإنما هو أوصاف تقريبية تلبس أثواب اللغة؛ فلا يكفي القول فيها ولا الكتابة عنها أن تصيب منها حقيقة الإدراك ما لم تصل أنت «ذوقا» إلى الأصل المدرك.
ومن أسباب ترددي في كتابتها أيضا طول العهد الذي مرَّ على هذه التجربة؛ ما يقرب من ثلاثة عقود، وهو زمن ليس باليسير وكاف للتأثير سلبا في الذاكرة والعبث بمخزونها، فكثير من الأحداث والوقائع والأفكار المرتبطة بالموضوع قد طواها النسيان، وما بقي أو ظل قد فقد كثيرا من حيويته وحرارته، خاصة أن التجربة الصوفية قائمة على الوجدان والشعور العميق والذوق الباطني والحالات النفسية المتجددة، وهي أشياء ومعاني يصعب أو يستحيل استحضارها واستدعاؤها قصد وصفها وتحليلها، وقد كان الأمر ممكنا زمن ولادتها وتدفقها.
ومن أسباب التردد كذلك؛ التوبة والرجوع عن التصوف والإقبال على طريق السلف الصالح رحمة الله عليهم، ذلك أنني لما تبت إلى الله ورجعت عن أفكاري ومعتقداتي الصوفية، لم أعد أحفل بعالم التصوف، وتمنيت أن لم أكن قد مارست التصوف ولا اطلعت عليه، ولذا اجتهدت كثيرا في نسيان هذه المرحلة من حياتي.
ومن الأسباب أيضا؛ خوف الوقوع في العجب والرياء، لأن كتابة التجربة الصوفية يعني الحديث عن العبادة والمجاهدة النفسية والرياضة الروحية؛ أي أني سأحدث الناس عما بذلته من مجهودات في سبيل تزكية النفس وإصلاحها، وخوض غمار التجربة الصوفية، الأمر الذي سيجعلني أسقط لا محالة في مستنقع العجب والغرور والشرك والرياء…
وكذلك مما جعلني أتردد في كتابة هذه التجربة؛ صعوبة التحقق بالموضوعية والتجرد في مثل هذه الكتابات؛ لا سيما أن الكاتب هو نفسه موضوع الكتابة والتحليل، فالمسافة بينه وبين ذاته منعدمة، مما يؤثر سلبا في طريق التحليل ويضعف من قيمة الأفكار المستنتجة.
لكن بعد استشارة صديقي وأستاذي الشيخ محمد محفوظ في الموضوع، تبين لي أن الإقدام على هذا العمل خير من الإحجام عنه، خصوصا بعد حصول التوبة والندم والرجوع إلى المحجة البيضاء، ولما في ذلك من تنبيه ونصيحة للمسلمين الذين تصوفوا، وتحذير لأولئك الذين هم في طريقهم إلى التصوف.
لم أكن خلال الأيام والأسابيع التي سبقت قدومي إلى فرنسا، أفكر في التصوف أو أقرأ عنه؛ وإنما كنت أحلم فقط بمتابعة دراستي الاجتماعية في جامعة باريس، لكن بعد انقضاء السنة الدراسية الأولى وحصولي على دبلوم الدراسات العليا المعمقة، فوجئت بانجذاب عميق نحو عالم التصوف، وإن المرء ليقف مستغربا حيال هذا الطارئ الذي يباغث طالبا عربيا حديث العهد بالجامعة الفرنسية، يحمل في باطنه آمالا وأحلاما متعلقة بالدراسة والمستقبل، وبعبارة أخرى إنه لمن المفارقات العجيبة، أن يقدم شاب من بلاد عربية مسلمة إلى مدينة أوروبية قصد الدراسة والتحصيل ثم يقذف به في عالم التصوف بحثا ودراسة وممارسة؟!
ومهما أعملت عقلي في الموضوع باحثا عن السبب الرئيسي لهذا الانجذاب، فلن أصل إلى نتيجة مقنعة ويقينية، بيد أن جهلي بالسبب الرئيس غير المباشر أو غير المعلن، لا يمنعني من العلم والإحاطة ببعض الدوافع والعوامل المباشرة التي تكمن وراء هذا الأمر، من بينها عامل الغربة، وهو من العوامل المؤثرة في نفسية الإنسان المهاجر، ولا يعرف الآم الوحدة والغربة إلا من يعانيها ويقاسي مرارتهما خاصة إذا كان مجتمع الهجرة يختلف اجتماعيا وعقديا وثقافيا عن المجتمع الأصلي.
هنالك تغدو الهوية غرضا وهدفا؛ حيث يستباح فناؤها وينتهك حماها، لقد كان المجتمع الجديد بحضارته ومدنيته وقوته وإغراءاته وسحره… أشبه بشلال قوي يجرف بمائه كل الأشياء التي تعترض سبيله، فلا بد من ملجأ التجئ إليه وملاذ ألوذ به، هناك ترائى لي جمال التصوف ففزعت إليه واعتصمت به.
وقد يكون من العوامل المباشرة أيضا؛ إعجابي الشديد بكتاب ومفكرين فرنسيين دخلوا في الإسلام عن طريق التصوف وانبهروا بالتراث الصوفي الإسلامي، وشرعوا في نشر هذا التراث ترجمة ودراسة كما عكفوا على ممارسة الحياة الصوفية، سواء على الطريقة الفلسفية أو الطرقية.
وأذكر من بين هؤلاء الكتاب، الباحث والفيلسوف الصوفي «رونيه كينو»، الذي أنهى حياته في القاهرة وعرف بعد إسلامه بالشيخ عبد الواحد يحيى، وترك مؤلفات صوفية وفلسفية، وأخرى في نقد الحضارة الغربية.
ومنهم «روجي غارودي» الفيلسوف الماركسي المعروف الذي أسلم وكتب في الحضارة الإسلامية بأسلوب فلسفي وصوفي، ومنهم أيضا «ميشال تشولد فسك» الأستاذ الجامعي صاحب الأبحاث والتآليف في التصوف الإسلامي، وأمثال هؤلاء كثيرون في فرنسا وباقي دول البلاد الغربية.
وناهيك عن المحاضرات والندوات التي تعقد في موضوع التصوف والرسائل والأطروحات الجامعية التي تتناول تاريخه ومجالاته ومظاهره. وحلقات الذكر على الطريقة الشاذلية أو النقشبندية إلى غير ذلك مما يتعلق بالممارسة الصوفية.
ثم إنني لا أستبعد طفولتي الصوفية كعامل مساعد ومهيئ لهذا الانجذاب والإقبال على التصوف في باريس؛ إذ الماضي يؤثر في الحاضر، وما تختزنه الذاكرة يطفح على سطح الشعور عند الضرورة، ومن هنا فإن طفولتي الصوفية قد شكلت جزء مهما من الأرضية الصلبة التي تأسست فوقها تجربتي الصوفية، وحيث أعدت توظيف كثير من المعاني والصور والرموز الصوفية التي ظلت متجذرة في ذاكرتي منذ ستينيات القرن الماضي الميلادي عندما كنت مريدا صغيرا من مريدي الزاوية العيساوية الشاذلية بتطوان.
ولعل تأثري بتجارب الصوفية الكبار؛ كأبي حامد الغزالي؛ ومحيي الدين بن عربي، وسلطان العاشقين عمر بن الفارض، وغيرهم من أعلام التصوف الذين أكثرت من قراءة كتبهم ورسائلهم، يعتبر كذلك عاملا أساسيا في سلوك درب التصوف، وكان إعجابي بتجاربهم ونظرياتهم الفلسفية والتربوية يدفعني كي أتقمص شخصيتهم حتى كدت أناجي أرواحهم من شدة المحبة والإعجاب، كما صاروا قدوة لي في ميدان السلوك والرياضة الروحية والعزوف عن الدنيا.
وخلاصة القول؛ إن ما ذكرته من العوامل والأسباب التي حملتني على التصوف قد لا تكون متضمنة للسبب الرئيس، ولعل ذلك السبب قد غاب عن وعيي في خضم الحالات النفسية الشديدة التي عادة ما تعتري صاحبها قبيل ولوج التجربة الصوفية والاندفاع في هذا الخيار الروحي الفردي. تلك الحالات التي كثيرا ما تتميز بظهور دافع في شكل النداء الباطني أو الهاتف الغيبي، أو الصوت الخفي، وذلك النداء الذي يدفع المرء نحو اختيار التصوف.
وبعد؛ فإن تجربتي الصوفية التي سطرتها في هذا الكتاب لا ترقى، بطبيعة الحال، إلى مستوى التجارب الصوفية لأعلام التصوف الكبار، بل ما تذوقت مثل ما تذوقوه من حالات ومعارف وجدانية، ولا شممت مثل ما شموه من روائح الروحيات العبقة! ولا أعرج بي إلى حيث أعرج بأرواحهم، وإنما طفت يسيرا بالذي فيه أقاموا، ولم أظفر ولله الحمد والمنة، بما ظفروا به، ولم أغرق فيما غرقوا فيه، بل رضيت من الغنيمة بالإياب!
ولله الحمد أولا وأخيرا.
ـــــــــــــــــــ
*نص مقدمة كتابي: «تجربتي الصوفية»، ص:5 وما بعدها. 1432-2011.
[1] – السهروردي، عوارف المعارف، ص:526.