قصة الكسائي وأبي يوسف ذكرها غير واحد، ونصها التام هو:
وكل ما ليس بصلب أو ملح فـعــدم اعـتـبـاره أمـر وضــح
وهـو الـذي يكـر بالإبـطـال على أصول العـلـم والأعـمـال
دون استنـاده إلـى قـطـعــي فـي أصـلــه ولا إلـى ظــنـــي
ولا يـرى مستحسنـا بالعقـل معنى ولا مستملحا في الأصل
ولما أنهى المصنف الكلام على القسمين المعتبرين في العلوم -وهما: صلب العلم وملحه- انتقل إلى ذكر ما ليس منها وحكمه، فقال: «وكل ما ليس» في العلم «بصلب» -وقد تقدم بيان المراد به- «أو ملح» -تقدم بيانه أيضا- «فعدم اعتباره» والمبالاة بطلبه والبحث عنه «أمر» قد «وضح» وظهر، لأنه ليس بعلم.
«وهو» أي ما ذكر مما ليس من صلب العلم ولا ملحه «الذي يكر» يرجع «بالإبطال على أصول العلم» الثابتة المعتبرة والقواعد المرجع إليها في الاعتقادات «و» في «الأعمال» المطلوبة شرعا.
ثم إنه يوجد ويحدث «دون استناده إلى» دليل «قطعي» مجزوم به «في أصله» بحيث لا يتطرق إليه الشك أو الريب «ولا» استناده «إلى» دليل «ظني» معتبر، وإنما مبتناه شبه عارضة، وأوهام وتخيلات.
ومثل هذا إنما يذهب إلى اعتباره الموسوسون والأغبياء، إذ لا يستند إلى دليل معتبر «ولا يرى» أي يعلم، ويبصر «مستحسنا» محكوما عليه «بـ» الحسن في «العقل معنى» يعني من جهة معناه وفائدته «ولا» يرى كذلك «مستملحا» معدودا من الملح «في الأصل» أي في أصله الذي بني عليه، وبذلك يخرج على ملح العلم، إذ الملح لا يصحبها منفر ولا هي مما يعادي العلوم، لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة، بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
خلاصة القول: إن ما كان هذا الذي تقدم وصفا له ساقط اعتباره، إذ ليس من صلب العلم، ولا من ملحه، واستحسانه هنا يكون لشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله، «فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقة أصله وهم وتخيل لا حقيقة له، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء، كالإغراب في استجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص، وأنهم من الخواص… وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان، حسب ما بينه الغزالي وابن عربي ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما.
ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الامام. واستنادهم -في جملة من دعاويهم- إلى علم الحروف وعلم النجوم، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثرت الدعاوي على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلا عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون، وكل ذلك ليس له أصل يبنى عليه، ولا ثمرة تجنى منه، فلا تعلق به بوجه»(1).
فصل
هذا وقد يعـرض للأول مـا يصير في الثاني به مرتسما
وذا له تصـور فـي الـواقـع بخـلـط عـلـم بـسـواه نـافـــع
كذا قد يعرض فيه أن يرى كثـالـث قـد نـافـر المعتـبــرا
بمثل أن يلقى …………… ……………………………
«هذا» يعني أقول هذا وأثبته لكن يجب أن أنبه على أمر مهم «و» هو أنه «قد يعرض لـ» القسم «الأول» وهو صلب العلم «ما يصير» به أي بسببه وبمقتضاه وحكمه «في» القسم «الثاني» وهو ملح العلم «به مرتسما» -بفتح السين- محسوبا ومعدودا، وارتسم الظاهر أنه مطاوع رسم الشيء إذا رسمه في موطن فارتسم فيه فإنه فيه، كما يبقى الأثر في موطنه، سواء فسر الرسم هنا بالأثر، أو بالكتابة فالمعنى يؤول إلى شيء واحد، وهو ما تقدم تقرير الكلام عليه.
«وذا» الذي ذكر من أن القسم الأول يعرض له ما يعد به من الثاني «له تصور» ومثال «في الواقع» يتجلى ويظهر «بخلط» أي في خلط «علم بسواه» أي بعلم سواه «نافع» في بناء الحكم في العلم الأول، كالفقيه يبني فقهه على مسألة نحوية، ثم يشتغل بتلك المسألة النحوية نفسها، فيقررها تقريرا نحويا، كما يقررها النحوي، فلم يأخذها باعتبارها قاعدة ومقدمة مسلمة، ثم يرد مسألته الفقهية إليها، والواجب عليه أن يأتي بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبني عليها، فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها، وفي تصحيحها، وضبطها، والاستدلال عليها كما يفعله النحوي، صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه؛ وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتي بها مسلمة ليفرع عليها في علمه؛ فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددي في علم العدد، كان فضلا معدودا من الملح إن عد منها. وهكذا سائر العلوم يخدم بعضها بعضا»(2).
«كذا» أي كما يعرض للقسم الأول ما به يصير من الثاني «قد يعرض فيه» أي القسم الأول ما به يصح «أن يرى كثالث» من تلك الأقسام، وهو قسم ما ليس صلبا، ولا ملحا وذلك لأنه «قد نافر» يعني فارق -ولو عبر به لكان أفضل- «المعتبرا» من الخواص التي كان بها من القسم الأول.
ويمثل لذلك «بمثل أن يلقى» ويذكر ما هو من المسائل العلمية.
………………. لغير أهلـه تـبـجـحــا بـنـقـلــه وحـمـلــه
أو ما له خطر من المسائل لغيـر ذي عـقـل لـذاك قـابـل
ضد ما يؤثـر فـي العـلـوم وبـثـهــا مـن أدب التـعـلـيــم
فمثل ذا يوقع في المحظور والنهي عنه جاء في المأثور
«لغير أهله» بأن يكونوا غير طالبين له ولا لهم به عناية، وإنما يذكر ذلك «تبجحا» أي افتخارا ومباهاة «بنقله» من أهله من العلماء «وحمله» في الصدر وحفظه.
«أو» سوق وذكر «ما له خطر» عظيم وقدر وعلو شأن بمقتضى النظر العقلي والحكم الشرعي «من المسائل لغير ذي» صاحب «عقل لذاك» المذكور له «قابل» وإنما يحتمل عقله -ذكاؤه وفطنته- صغار المسائل، فكان من الواجب أن يخاطب بما يفهم وما يكون على قدر عقله.
ومن خالف هذا الواجب، فقد أتى «بضد ما» أي الذي «يؤثر» أي يختار «في» تعليم «العلوم وبثها» أي نشرها في الخلق، «من» بيانية لقوله «ما»، «أدب التعليم» ومنهاج التربية، الذي من قواعده مخاطبة الناس بما يفهمون، والتعليم بصغار المسائل قبل كبارها.
«فـ» أما «مثل ذا» وهو سوق المسائل الكبار لمن قصر عقله عن فهمها فإنه «يوقع في» الفتنة والأمر «المحظور» المحرم، وهو أن يكذب الله ورسوله؛ «والنهي عنه» أي عن هذا السبيل قد «جاء في» الخبر «المأثور» عن علي رضي الله عنه في قوله: «حدثوا الناس بما يفهمون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!».
يتبع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) الموافقات، ج. 1، ص. 60.
-(2) نفس المصدر السابق.