المقدمة العاشرة
في أنه إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا، ويتأخر العقل فيكون تابعا. قال الناظم:
إن عضـد المنقـول بالمعقـول***** فـشـرطــه تـقـدم المـنـقــول
إذ ليس للعقل مع الشرع نظر *****إلا بقدر ما من النقـل ظهـر
دليلـه لـو جـاز حـكـم العـقــل**** لجاز أن يبطل حكم الأصل
«إن عضد» الدليل «المنقول» السمعي الوارد في النصوص الشرعية «بـ» الدليل «المعقول» أي العقلي، بحيث يحكم كل واحد بالحكم نفسه الذي يحكم به الآخر، وذلك كمنع الكذب الضار، «فشرطه» يعني فشرط العمل بهما «تقدم المنقول» وجعله متبوعا، وتأخر المعقول وجعله تابعا للمنقول المذكور.
«إذ» -تعليلية- يعني وذلك لأجل أنه «ليس للعقل مع الشرع نظر» وحكم «إلا بقدر ما» أخذ «من النقل» وما منه «ظهر» أنه قد سمح به فإن العقل لا يسرح إلا بقدر ما يسرحه النقل، إلا أنه لا يحجر عليه إلا فيما ليس فيه قدرة على النظر، وكسب الصواب، كالشرعيات.
«دليله» أي دليل ما ذكر من أن العقل لا يسرح إلا بمقدار ما يسرحه به النقل، هو أنه «لو جاز» أن يكون «حكم العقل» يمضي في الأمور الشرعية مستقلا عن النقل «لجاز أن يبطل حكم الأصل» الذي ضبط به النقل العمل العقلي في هذا الشأن، وذاك الأصل هو ما تقدم ذكره.
لكـن ذا غيـر صحيـح أصـلــه**** كــذاك مــا أدى إلـيــه مـثــلـــه
ومـع ذا التحـسـيـن والتقـبـيــح**** مـن حـكـمـه ورده الصـحـيـــح
ولا اعتراض فيه بالتخصيص*** بالعـقـل والقـيـاس للمنـصـوص
إذ ليس فيه العقل بالحكم انفرد ***بل بدليل السمع في ذاك اعتضد
«لكن ذا» وهو تعدي العقل مأخذ النقل «غير صحيح أصله» من جواز بطلان الأصل المذكور «كذاك ما أدى إليه» فهو «مثله» في البطلان والسقوط.
«ومع ذا» الدليل الذي ذكر يزاد دليل ثان آخر، وهو ما تبين في علم الكلام من أن «التحسين والتقبيح» قد قيل إنهما «من حكمه» بمعنى أنه يحسن ويقبح «ورده» أي هذا القول هو القول «الصحيح» الذي عليه أهل الحق في هذه المسألة.
«ولا اعتراض» صحيح يرد «فيه» أي في هذا الذي ذكر من العقل لا حكم له في الأمور الدينية والشرعية «بالتخصيص» للدليل العام الشرعي، ذلك التخصيص الذي يكون معلوما ومدركا «بالعقل» وحده، وأمثلة هذا الموضوع تنظر في الأصل؛ «و» كذلك لا اعتراض أيضا صحيح بالتخصيص «القياس للمنصوص» أي للنص الشرعي، وبيان هذا الضرب من التخصيص أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص، صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه، ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»، فمنعوا -لأجل معنى التشويش- القضاء مع جميع المشوشات، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب، فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل من غير توقف(*).
هذا كله اعترض به على ما تقرر في أنه لا حكم للعقل في الأمور الشرعية «إذ ليس فيه» أي في ما ذكر أن «العقل بالحكم» قد استقل و «انفرد» وأنه قد تصرف متعديا لهذا الذي حد له «بل» الثابت أنه «بدليل السمع» الذي به هدايته «في ذاك» الذي أدركه «اعتضد» وإليه استند، إذ تصرفات العقل هذه إنما ساغ له أن يأتيها لأن الشارع علم أنه سن له ذلك وأذن له فيه. فبذلك العقل -هنا- إنما يمضي فيما وضعه له الشارع من سبل وطرق، فهو مسدد بذلك، وعليه عمله.
المقدمة الحادية عشرة
في أن العلم المعتبر هو العلم الذي دلت عليه الأدلة الشرعية، لأنه العلم الذي به العمل. قال الناظم:
قد صح أن العلم أعني المعتبر**** فيما يفيد عمـلا قد انحصـر
وأصـلــه الأدلــة الشـرعــيــة ****ومـر قبـل أنهـا السمـعـيــة
فالعلـم من تلقـائهـا مكـســوب**** فحصرها إذا هو المطلوب
«قد صح» وثبت «أن العلم أعني المعتبر» المطلوب تعلمه شرعا هو «فيما» أي في العلم الذي «يفيد عملا» مطلوبا شرعا «قد انحصر»، فكل علم ليس من ورائه عمل لا يعد علما معتبرا شرعا كما تقدم بيانه.
«وأصله» أي مأخذه ومدركه «الأدلة الشرعية» وحدها، «ومر قبل» في المقدمة التي قبل هذه «أنها» الأدلة «السمعية» فقط.
«فالعلم» المذكور أنه معتبر شرعا «من تلقائها» أي من جهتها «مكسوب» ومدرك، «فحصرها إذا هو» الأمر «المطلوب» لأنها إذا حصرت حصرت مدارك العلم الشرعي وضبطت، وما حصر وحدد أمكن الانتفاع به على الوجه المطلوب، وكان التصرف فيه متأتيا؛ فكان هذا الحصر مطلوبا لذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) الموافقات، ج. 1، ص. 62.
يتبع..