النخبة هي مجموعة أفراد ينتمون إلى مجتمع، يعكسون صورة النظام الحاكم فيه، ويعبرون عن مرجعيته وقناعات رجاله، ويمثلون حالة الحكم إما ضعفا وتبعية وتشتتا، وإما قوة واستقلالية واتحادا.
والنخب صنفان نخبة يصنعها النظام لتصريف سياساته، ونخبة يصنعها المجتمع، من خلال مرجعيته الدينية والثقافية والتاريخية، يمنحها ثقته ويعترف لها بالقيادة لأنها تعكس هويته وتاريخه ويرى فيها استمراريته وطموحاته.
وصناعة النخب آلية تستعملها الأنظمة، لاستمرار قوتها والحفاظ على مصالحها، فتفتح المجال أمام مَن تريده أن يلعب دورا في سياسة شعوبها، وتوجيه الرأي العام لديها، وتسخر له الحماية والإعلام والمال وتذلل له العقبات حتى يصعد إلى مركز التأثير.
أما النخب التي لها امتداد حقيقي في طبقات الشعب العريضة فتكتسب مكانتها وقوتها من دفاعها عن دينه وهويته ومصالحه، فيعترف لها بمصداقية الكلمة، وإخلاص النية، ونظافة اليد ونزاهة الطوية، فيمدها بقوة الحظوة لديه، ويدعمها بصوته ويؤيدها بدفاعه.
وكلما انفصل نظام الحكم عن دين شعبه وهوية مجتمعه كلما وقع التباين بينه وبين النخب الحقيقية ذات الامتداد الشعبي، فاحتاج -النظام من أجل الاستمرار- إلى النخب المزيفة التي يصنع بها رأيا عاما مزيفا له حضور إعلامي ينفث فيه الحياة ليؤدي دوره الكاذب على مسرح السياسة، بينما يقابل في الواقع بالسخط المجتمعي العارم.
فلنترك النظر والنظري، ولنتحدث عن الواقع.
فعندما عجزت الدولة بعد الاستقلال عن فرض مقومات هويتها وعلى رأسها الإسلام بشريعته في الحكم والسياسة والاقتصاد، وعقيدته وسلوكه في التربية والتعليم والثقافة، استطاع المحتل أن يبقي ثقافته ولغته حاضرة بقوة من خلال ما تركه من نخبته العلمانية في إدارة الدولة وتحريك دواليبها، فبقيت حضارته وثقافته مهيمنة على مقومات الهوية والدين من خلال ما أنشأه من مؤسسات وقوانين، فاستمرت التبعية الفكرية والاقتصادية، فما استطعنا منها فكاكا، وكان من تمظهراتها وجود أمثال الوزير بلمختار الذي يسبح ضد التيار ويطالب بالرجوع إلى ما كان قد فرضه المحتل الفرنسي على شعبنا في قطاع التعليم، حيث قرر التمكين للغة الفرنسية لغة الاحتلال على حساب اللغة العربية لغة الدين والهوية والتاريخ.
كما احتاج النظام إلى نخب يـُظهر من خلالها للدول المانحة والمؤثرة في القرار الدولي، أنه منفتح وديمقراطي وحداثي، فاحتاج في تشكيلته إلى صحافة علمانية تتكلم بلغة رعاة “الديمقراطية” و”الحداثة”، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي وفق متطلبات حضارة أولائك الرعاة، كما احتاج إلى المنظمات الحقوقية التي ترفع تقارير تظهر حسن سير الدولة وفق الخطة التي وضعها نفس الرعاة، ومدى استجابتها لما تنتجه منظماتهم “الدولية” من قوانين.
فبدل أن تقوم هذه المنظمات وتلك الصحافة بالانتصار لحقوق الإنسان من منطلق ما تمليه مقتضيات هويتنا وديننا، نراها على العكس، ترفع شعار سمو المواثيق الدولية على كل القوانين الوطنية والأديان والأعراف، وتطالب بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، وبتحرير العلاقات الجنسية الرضائية المجرمة شرعا وقانونا، وكذا رفع التجريم على اللواط بين راشدين، بل بلغ الأمر إلى حد قيام وزير السياحة لحسن حداد بالتصريح الواضح الجلي أنه يعتبر ممارسة الجنس واللواط بين راشدين وبرضاهما أمرا يدخل في صميم الحرية الشخصية، ما دام لا يقصد به استفزاز الناس.
وهـَبْ يا سيادة الوزير أن إخوانك في المنظمات الحقوقية والأحزاب العلمانية والجمعيات اللادينية ووسائل الإعلام اللائكية استطاعوا أن يغيروا قناعات الشعب فأصبح يرضى برؤية اللواطيين والسحاقيات ولا يستفزه وجودهم، هل هذا سيجعل الزنا واللواط أمرا مشروعا ولا مشكلة فيه من الناحية الدينية والأخلاقية.
المشكلة عند أمثال حداد وبلمختار أنهم من النخبة المزيفة التي تلعب دورا في واقع سياسي تحكمه علمانية مفروضة من الخارج، تحول دون استكمال المغرب رجوعه إلى هويته وذاته وتاريخه، نخبة مزيفة اختزلت حقوق الإنسان في اللواط والزنا والمساواة في الإرث، واختصرت الحداثة في العداء للإسلاميين ورفض الإيمان بالغيب ومقتضياته، وجعلت للديمقراطية شرطا أساساً هو رفض الشريعة، وبَنَت التسامح على القبول بالدعوة إلى الإلحاد والكفر بين المسلمين.
إنها نخبة قِمْعٌ لتمرير ما ينتجه العقل الغربي إلى بنيات العقل الجمعي المغربي، فهي تحترم ثقافة الغرب وتروج لها وتحيي ما مات منها، ولا يهمها إن كان على حساب دين الشعب وتاريخه، بل الأدهى والأمر أنها تدعو إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي ليستجيب لكل ما تنتجه الآلة الفكرية الغربية، وتطوع المجتمع بالعمل والنضال من أجل إلغاء ما بقي من أحكام توافق الشريعة الإسلامية في القوانين المعمول بها في مغربنا المسلم.
نحن في الواقع، أمام ممانعة لهذه النخبة المزيفة المستقوية بالوزارات والمال العام، كان من المفروض أن تختفي بعد رياح التغيير وبعد انهيار الفلسفات المادية والأحزاب اليسارية والليبرالية، وبعد وضوح خيانتها لشعوبها، واضمحلال أطاريحها النهضوية.
إنها نخبة كاذبة خاطئة مزيفة خادعة مخدوعة، تحاول إيقاف تطور شعبي صاعد لاسترجاع مقومات هويته وإحلالها المحل الذي يليق بها في تصريف الشأن العام، فلقد شهد المغرب على غرار باقي شعوب العالم الإسلامي رجوعا شعبيا عارما إلى الدين والتدين اعتقادا وتطبيقا، الأمر الذي أكسب التيارات الإسلامية قوة ظاهرة استطاعت أن تكتسح الانتخابات في كل البلدان، الأمر الذي اضطرت معه الأنظمة إلى الانقلاب على مكتسبات الربيع العربي، أو احتواء تلك القوة الإسلامية الدافعة نحو كراسي تدبير الشأن العام، وممارسة السلطة، فكانت النخبة المزيفة هي الأذرع المسمومة المقحمة في المجال السياسي لخنق الحكومة نصف الملتحية بعد دستور 2011، والحيلولة دون استقرارها وتجانسها، حتى لا تنجح فيكون لنجاحها الأثر البالغ في ميزان القوة، حيث يصبح التصويت على الإسلاميين رغبة لعموم الشعب وقرارا ينتظر تحقيقه في الاستحقاقات القادمة وما يليها، وما ذلك إلا لكونه يلمس فيهم قرب تحقيق طموحاته في العيش الكريم وفق مقتضيات مقوماته الدينية والتاريخية، فنجاح الإسلاميين هو نجاح للشعب الذي يتوق إلى المصالحة مع ذاته ومرجعيته ودينه وتاريخه.
وهذا ما يفسر نجاح العدالة والتنمية المضطرد في تركيا وإقبال الشعب التركي المسلم على انتخابه، ولفظه للنخب العلمانية المزيفة التي استمرت في التواجد بفعل الإعلام الكاذب وبقوة سلاح العسكر، ودعم حلف الناتو ودوله الغربية التي جعلت من الإمبراطورية العثمانية الإسلامية: مجرد دولة تدعى تركيا، أكبر همِّ نخبتها المزيفة أن تنتف لحى الأئمة والمتدينين، وتخلع الحجاب والنقاب عن رؤوس النساء والفتيات، وترفع التجريم عن ممارسة الجنس الرضائي وتحفظ حقوق الشواذ، وتسوي بين الرجل والمرأة في الميراث، فلا عجب أن تتشابه مطالب العلمانيين من النخب المزيفة في كل مكان.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل
ettalebibrahim@gmail.com