إخوان الكافر الحاج عمر و”سياسة الضبلون”

ما أكثر الكفار أمثال الحاج عمر في زمننا هذا، يمشون كالأشباح بيننا دون أن نراهم، جيوش منتشرة تتراءى فقط من خلال آثارها في نحت الشخصية المغربية وتعريتها من كل مقومات هويتها.
لا وجود رسميا لهم، فقط تراهم في الأعداد الهائلة من أطفال الزنا ضحايا الثورة الجنسية، التي تذكي نارَها الأفلامُ المدبلجة والتسيبُ الإعلامي، ويغذيها الاقتصاد الليبرالي الجشع الذي يفرز الظلم الاجتماعي، وتُعمِّق تَجذُّرها سياساتُ التفقير والاستغلال للمال والسلطة، وتُشرعِنُها الأفكارُ العلمانية التي تمرَّر إلى الشباب في كل وقت وحين، تلك الأفكار التي تُنتج المزيد من النساء الأمهات ضحايا الشهوات العابرة.
إخوان “الكافر الحاج عمر” تراهم في الفقر المدقع الذي يدفع الفتاة الطاهرة أن تقتات بفرجها لتطعم أبًا مقعدا أو أُمّا مريضة، تراهم في المرض المزمن الذي ألِف بقايا أجسامٍ لآدميين أحياء لم تبق من مظاهر الحياة فيهم سوى أصوات الأنين وآهات الألم.
لكن هناك أيضا كفارُ أخر، لهم حس ووجود مزروعون بالآلاف في مؤسسات المجتمع المدني، منهم من يسمي نفسه رسول سلام، ومنهم من يشتغل في التعليم والإعلام وفي السياسة والاقتصاد، هم إخوان الكافر الحاج عمر لهم رسالة ومهمة.
هم أولئك الذين أتوا من الخارج عبر البعثات لتبادل الخبرات، أتوا ليعلموننا كيف نكون ديمقراطيين أكثر من سكان الإيليزي، يعلموننا كيف نكون متسامحين مع قتلتنا، يعلموننا كيف نقبل باللواط، ونعتبره مجرد اختلاف في الميولات الجنسية، لا علاقة له بالدين، فقط مثله مثل الاختلاف في الميولات الأخرى المتعلقة بالأكل والشرب.
يعلموننا كيف نغير نظرتنا إلى الزنا، ونعتبره حرية فردية لا شيء فيها ما دامت بالرضا، يعلموننا أن علينا أن نترك كل ما هو دين وشريعة وأن نرضى ونقبل أن يختفي من الشأن العام لأن شريعة الإسلام مخالفة حسا ومعنى للديمقراطية كما هو متعارف عليها دوليا، ومناقضة لمفهوم الدولة الحديثة.
يعلموننا أن نقبل بالصهاينة في القدس وفي فلسطين المحتلة، ونعتبر قضية الأقصى وفلسطين مجرد صراع بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”.
يعلموننا كيف نفهم القرآن بالشكل “الصحيح”، الذي يتماشى مع متطلبات العصر، قرآنٌ بلا معنى ولا أثر، نقرأه كما نقرأ قصيدة الشعر أو رواية أدب أو كتاب تاريخ، ونستمع إليه كما يستمع جمهور مهرجان الموسيقى الروحية، حيث يجلس اليهودي والنصراني والمسلم جنبا إلى جنب يستمعون إلى أنشودات الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم في تعايش وحب وسلام.
يعلموننا باختصار أن تاريخ الإمبراطورية المغربية قد اتحد وحلَّ في تاريخ الرومان والأمريكان فاستحال على أرض الواقع، حداثة في الشعر واللغة، وعلمانية في السياسة، وليبرالية في الاقتصاد.
ومن صاح: وا إسلاماه!!! أقنعوه أن لا خوف على الإسلام من هذا الثالوث العلماني المقدس (الحداثة والعلمانية والليبرالية)، فإنه يحمي الدين أفضل مما يحميه الوهابيون والسلفيون والإخوانيون.
ثم بكل صفاقة، يعلموننا أن هؤلاء جميعا تجار دين، رغم ما يتعرضون له من تقتيل وتشريد وسجن وتعذيب، وأن العقلاء النزهاء المخلصين هم من يقبلون بالثالوث المقدس في زمن العولمة للنموذج الغربي في الحكم والاقتصاد والثقافة والفكر، العولمة المسلحة بالفسفور وأسلحة الدمار الشامل.
فمن هو هذا الكافر الحاج عمر؟؟؟
بدايةً، هذا التكفير ليس من عندي، ومثله لم يكن له هذه الحساسية المفرطة، التي أنتجتها الحرب على ما سمته أمريكا الإرهاب، فهو تكفير تاريخي مغربي مبني على عقيدة كانت عند الملوك والوزراء والرعية، مسجلٌ في وثيقة رسمية تؤرخ لأوائل سِنِيّ التربص الفرنسي العلماني بالمغرب المسلم بعد معركة إيسلي.
جاء هذا التكفير -وما أكثره في الرسائل المخزنية- في رسالة رسمية مؤرخة في 16 جمادى الثانية عام 1261هـ الموافق 22 يونيو 1845م وهي من السيد محمد بن ادريس وزير السلطان عبد الرحمن بن هشام إلى عامل العرائش بوسلهام بن علي يقول فيها:
“وبعد، فقد وصلنا كتابُك مخبرا بِسَرْدِك نسخةَ الشروط الواردة عليك على الكافر عمر، وبعدما امتنع من بعضها حضرت السعادة، وأذعن لقبول الكل وسلمه، وسافر لملاقاة دلاروا (كبير المفاوضين الفرنسيين) حتى يقدم معه عليك لأخذ النسخ، وتوجيهها للختم عليها، فالله ييسر الأمور، ويكمل المرام بمنه”.
فمن هو “الكافر عمر” هذا؟
يفيدنا المؤرخ المدقق محمد المنوني أن الحاج عمر هذا هو: “ليون روش Léon Roches ضابط وديبلوماسي فرنسي ولد بكرونوبل سنة 1809م والتحق سنة 1832م بالجزائر حيث كان والده من “المعمرين” الفرنسيين فيها فتعلم العربية، وعين ضابطا مترجما، وشارك سنة 1836م في حملة المرشال “كلوزل” على المدية، وفي شهر دجنبر سنة 1837م التحق بمعسكر الأمير عبد القادر، فتظاهر بالإسلام وسمّى نفسه عمر ولد روش، وزوّجه الأمير بامرأة مسلمة وجعله أمينَ سره الخاص، ولمّا استأنف الأمير عبد القادر النضال ضد فرنسا تخلى ليون روش عنه في شهر نونبر سنة 1839م والتحق بالجزائر (العاصمة) حيث عُين ترجمانا عسكريا بالأركان العامة للجنرال بيجو، وكلفته حكومته بعد ذلك بمهمات سياسية في القيروان والقاهرة ومكة.
ولما عاد إلى الجزائر عين رئيساً للتراجمة العسكريين وحضر جميع المعارك التي جرت بين الفرنسيين من جهة، والمغاربة والجزائريين من جهة أخرى، ومنها معركة إيسلي سنة 1844، التي ألحقه المرشال بيجو في يبراير 1845م بعدها بالجنرال الكونت دو لاروا المكلف من طرف فرنسا بتحديد الحدود بين المغرب والجزائر، وفي شهر ماي 1845م ألحقته حكومته بالسفارة الفرنسية في طنجة ليعمل على إقناع السلطان بالمصادقة على اتفاقية للا مَغْنية الممضاة يوم 28 مارس من نفس السنة”. (1)
الكفار أمثال الحاج عمر في تلك الآونة كانوا كثر، فقد سن لهم هذه السنة نابوليون بونابارت الذي ادعى الإسلام لما دخل مصر، وقلده الإنجليز في عهد شريف مكة فأرسلوا الكافر لورنس العرب الذي ادعى الإسلام وصلى لسنوات بجنود شريف مكة الذي كان يطمع في الخلافة بدل السلطان العثماني، والكافر الجنرال ليوطي الذي اختلف في إسلامه المغاربةُ سنوات طويلة، والباحث الفرنسي الشهير ميشو بلير المشهور بولد القاضي الذي عاش بالقصر الكبير ومات بسلا.
لقد ركزت على كلمة الكافر، ليستصحبها القارئ الكريم من غياهب التاريخ، ليلاحظ أنها اختفت تماما من المشهد السياسي والفكري بل حتى الديني، نظرا لعولمة العلمانية التي لا تفرق بين الإسلام والكفر، وتحبس الإيمان في قلوب المؤمنين.
لذا وغيره، فقد أصبح من كان يسميهم المسلمون كفارا، أمثال ليون ولورنس ونابولين وليوطي وميشو، لا يحتاجون للتأثير على الشعوب الإسلامية أن يتظاهروا بالإسلام، ففي زمن “مؤمنون بلا حدود” زمن أصبح فيه أغلب سياسيينا يعتقدون في سمو المواثيق الدولية عَلى الشريعة الإسلامية، ويطالبون بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة استجابة للاتفاقيات الدولية، ومنهم من يدعون إلى رفع العقوبات عن اللواط والزنا، ومنهم من يدافع عن حق المنصرين في بناء الكنائس والدعوة إلى عبادة الصليب بين المسلمين المغاربة.
فلماذا يحتاج أحفاد ليون روش أو الحاج عمر إلى التظاهر بالإسلام، فكل ما يريد إقناع الشعب المسلم به يتولى أمره مغاربة مسلمون يحميهم القانون من خلال جمعيات مرخص لها، تعطاهم الأموال من الداخل والخارج لاستكمال ما بدأه ليون وليوطي.
وعلى ذكر الأموال التي تعطى للجمعيات التي تتلقى الأموال من الداخل والخارج، فالحاج عمر روش كما يقول المنوني رحمه الله: “هو -فيما نعلم- أول من دشن “سياسة الضبلون”، أي رشوة الوزراء والعمال والموظفين الكبار المغاربة من طرف الموظفين الديبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين بالمغرب، وقد رشا الوزير ابن ادريس والعامل بوسلهام بن علي وباشا طنجة بنعبو بمبالغ مالية، وحاول رشوة من هو أعلا منهم رتبة وأقوى نفوذا وكلمة. “الوثائق ج1 ص 18، العلامة المؤرخ محمد المنوني”.
فـ”سياسة الضبلون” هذه لم تمُت إلا أنها اتخذت صورة أخرى، منها الجوائز السينمائية والأدبية والمنح التي تقدم من الصناديق التابعة لأساطين العلمانية الدولية “كصندوق المجتمعات المفتوحة” لصاحبه جورج سوروس الذي أرسل إلينا 100 من رسل السلام ونشرهم في مجتمعنا المدني، حتى يعلموا القائمين على جمعياتنا ويرسخوا فيهم قيم الديمقراطية، بطبيعة الحال ليست ديمقراطية الحق والعدالة الاجتماعية، ليست ديمقراطية حق الطفل والمرأة، وإنما ديمقراطية القبول بسمو ما أنتجه الفكر الغربي على ما كان يطبقه وينتصر له آباؤنا وأجدادنا من قيم وشرائع الإسلام.
“سياسة الضبلون” سياسة معتمدة من طرف الأمم المتحدة، ولا أقصد المنظمة الأممية وإنما أريد الدول المتحدة ضد الشعوب الإسلامية، الدول الديمقراطية مع شعوبها فقط، في حين تُمارس أبشع أنواع الديكتاتورية، دكتاتورية فاقت دمويةَ “هيلاسي لاسي” إمبراطور الحبشة، الذي كان يُفطر ويتغذى بلحوم الأطفال، إنها ديكتاتورية حق الفيتو، دكتاتورية فرنسا وأمريكا والصين وروسيا وبريطانيا، والتي نراها على أرض سوريا والعراق ومالي والصومال وإفريقيا الوسطى وميانمار وفلسطين، فكل المجازر في حق الشعوب الإسلامية، تتم بـ”سياسة الضبلون”، التي تقدم من خلالها القروض والمنح للدول الإسلامية حتى لا تقوم بواجبها في الدفاع عن المسلمين وعن بلدانهم، كما تقدم من خلال الأجور المنفوخة الضخمة للموظفين الأممين، حتى لا يخرجوا عن صمتهم، ويتواطؤوا مع السفاحين من دول الفيتو.
والمتتبع للتاريخ الحديث للدول الإسلامية يعلم أنها لم تقع لقمة سائغة في فم الدول الغربية التي تربصت بها قرونا عديدة ولم تفلح في إسقاطها إلا بعدما اختُرقت بالجواسيس عبر قناع الدبلوماسية والأعراف الدولية، وكذلك لمّا وَجدت “سياسة الضبلون” طريقها إلى الطبقة السياسية في إدارة الحكم بها، وتزامن ذلك كله مع فقدان الدولة لرجال “عقلاء يدبرون أمور الدين ويعرفون كيد العدو اللعين” على حد تعبير الوزير محمد بن ادريس في رسالة سبقت الرسالة المذكورة أعلاه بخمسة أيام، موجهة كذلك إلى عامل العرائش بوسلهام بن علي يقول فيها:
“ونحن في هذا الوقت ليس عندنا عقلاء يدبرون أمور الدين ويعرفون كيد العدو اللعين، والعدو قصمه الله مهتم غاية الاهتمام بخداع المسلمين وغرورهم، وإن الله موهن كيد الكافرين وعلى المحبة والسلام”(2).
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم بن المهدي الطالب
ettalebibrahim@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العلامة المؤرخ محمد المنوني، الوثائق ج2 ص 18.
(2) العلامة المؤرخ محمد المنوني الوثائق ج2 ص 14. الرسالة مؤرخة في 11 جمادى الآخرة عام 1261هـ الموافق 18 يونيو 1845م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *