نجد القرآن الكريم يجمع في مواضع كثيرة بين القلب والحواس، وهذا الجمع يبرز علاقة من التكامل والارتباط في الوظائف والأعمال وما يترتب عنها من ثواب وعقاب، “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا” الإسراء:36، وهي علاقة عكسية ذهابا وإيابا، تأثيرا وتأثرا بين الطرفين، فالحواس باعتبارها نافذة على العالم الخارجي وأداة للالتقاط الظواهر المحسوسة الخارجة عن الجسم، فأثرها واقع بالضرورة على القلب إيجابا وسلبا، “إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا” الأحزاب:10.
وكما أن القلب محرك للمشاعر ومصدر للنوايا ومنشط للإرادة، فتأثيره على الحواس أقوى وتحكمه في الجوارح أشد، “وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ” الأنعام:25.
فقدان للهداية:
الهداية نعمة ربانية وكرم إلاهي ونور يقذفه الله في قلب المؤمن، وأعظم ابتلاء قد يصاب به العبد هو فقدان الهداية من الله بعد أن أوتيها، فيُحرَم بذلك خيري الدنيا والآخرة، ومبدأ هذا الحرمان هو انطفاء نور الإيمان في القلب، والقفل عليه بمغاليق المعصية، فيصم الله تعالى الآذان ويغشي الأعين، فلا يجد نور الحق له منفذا، “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا” الكهف:57.
ومن بواعث هذا الضياع اتباع الهوى والركون إلى الشهوات والانسياق وراء الفتن وتضييع حقوق الله تعالى وحقوق العباد، “أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” الجاثية:23.
ومن فقدان الهداية فقدان أدواتها سواء أكان فقدانا عضويا أو فقدانا معنويا، والله تعالى هو المعطي وهو المانع، وهو الوحيد القادر على سلبها أو ردها إن شاء، “قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ” الأنعام: 46، فمن نعمه عز وجل علينا أن وهب لنا هذه الأدوات والأعضاء والوظائف، من قلب وحواس، لنستعين بها على طاعته وعلى شكره، والقيام بما افترضه علينا من تكاليف، وفي فقدانها أو فسادها ابتلاء شديد قد يؤدي بالعبد إلى التسخط والجزع من قضاء الله وقدره.
عماء البصيرة قبل عماء البصر:
يدعونا الله تعالى إلى إعمال القلب بالتفكر في آياته الكونية والتدبر في آياته النقلية، والقلب محل التفكر والتذكر، “إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” ق:37، فهي دعوة للمشاهدة بالحواس وأخذ العبرة واستيعاب المعنى بقلب واع حاضر متأمل متعقل، فمتى غفل هذا القلب وهيمنت عليه الأهواء إلا واكتنفه الظلام وأصابه العماء، “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” الحج:46.
وصور الوعيد لهذا الصنف تشمل الجن والإنس، تضعهم في أحط الدركات، لفقدانهم طبيعتهم الإنسية والجنية، بسبب فساد قلوبهم وحواسهم معا، فصاروا أضل من الأنعام، “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ” الأعراف:179.
تقلب القلب والبصر:
وفيه فقدان للطمأنينة، ضياع للثبات، والتقلب طبيعة قلبية وهو دال على معناه لغة واشتقاقا وما عمل الحواس إلا امتداد وأثر لهذه الخصيصة التي تميز بها الفؤاد، لأنه المتحكم والمؤثر فيها، فالحواس تتقلب في الفعل وتصدِّق أماني القلب أو تكذبها، وهي تابعة له إما خيرا أو شرا، إما طاعة أو معصية، “وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ” الأنعام: 110، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كتب على ابن آدم حظُّه من الزنا أدرك ذلك لا محالةَ: فالعينان تزنيان وزناهُما النظرُ والأذنُ تزني وزناها السمعُ واللسانُ يزني وزناه المنطقُ واليدُ تزني وزناها البطشُ والرجلُ تزني وزناها المشيُ، والقلبُ يتمنى ويشتهي والفرجُ يصدّقُ ذلك أو يكذبُه” مجموع الفتاوى:17/30.
ومن مشاهد ذلك في الدنيا ما يصوره لنا القرآن الكريم عما يطرأ على قلب المنافق وبصره من تقلب عند محاصرته بالحق ومجابهته بالصدق ودعوته إلى الإقدام والنصرة عند نزول الخوف والبلاء، فتراه قد أصابه هلع قلبي، يتجلى ظاهرا في دوران الأعين وتردد الأبصار، “قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ” الأحزاب: 18-16.
أما في الآخرة، فالموقف أدهى وأمر، لما تعاينه قلوب وأبصار الكفار من هول يومئذ، وما ينتظرها من شقاء وعذاب، “قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ” النازعات: 8-9.
اللهم أصلح قلوبنا واحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وسخرها لطاعتك.
والحمد لله رب العالمين.