من أسباب الثبات على الاستقامة (تتمة) “من عرف ما يَطْلُب هَانَ عليه ما يَبْذُل” بقلم محمد أبوالفتح

من أعظم نعم الله تعالى على العبد أن يوفقه للاستقامة وأن يعينه على الثبات عليها حتى يلقاه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء سببا، فمن أراد الثبات على الاستقامة فعليه أن يأتي بالأسباب المعينة على ذلك، وقد تقدم معنا في مقال سابق ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، ومنها أيضا:

1- مصاحبة الأخيار:
لا شك أن مصاحبة الأخيار من أهل الاستقامة يزيد العبد ثباتا على دينه، فهم عبير الزمان ومسكه، وهم عسل الحياة الدنيا وشَهْدُها، بقية السلف الأخيار، إن نسيت ذكروك، وإذا اعوججت أقاموك؛ وإن ذكرت أعانوك، وإذا ضعفت عن الخير عضدوك وآزروك، وأقل ما يقال فيهم أنهم إن لم ينفعوك لم يضروك، فاعرف لهم قدرهم، والْزَمْ غَرْزَهُم، فإنهم على ما فيهم صفوة أهل الزمان، وإذا فرطت فيهم لم تجد خيرا منهم ولا عوضا عنهم، وعلى رأسهم أهل العلم من أهل السنة والدعاة المصلحون، فهم كالأنجم يَهتدي بها السائر إلى الله في دياجير الليل البهيم، وكأعلام عليها نار يسترشد بها الحيران في ظلمات الشهوات والشبهات،”ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” (النور40)، فإن أعَلَّتك شبهة وجدت عندهم الشفاء والدواء، وإن استهوتك ضلالة أخذوا بيدك إلى بر السلامة والأمان، كما قال الله تعالى في الصحابة الكرام حين ضرب لهم مثلا في الإنجيل: “.. وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ” (الفتح29).
قال السعدي: “أي: أخرج (يعني الزرع) أفرخه، فوازرته في الثبات والاستواء، “فاستغلظ” ذلك الزرع أي: قوي وغلظ، “فَاسْتَوَى” أي: قوي واستقام.. كذلك الصحابة.. هم كالزرع في نفعهم للخلق، واحتياج الناس إليهم، وكون الصغير والمتأخر إسلامه قد لحق بالكبير السابق، ووازره وعاونه على ما هو عليه من إقامة دين الله والدعوة إليه ،كالزرع الذي أخرج شطأه فآزره..”.
فالجماعة تزيد الفرد ثباتا، والفرد تتقوى به الجماعة؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الإثنين أبعد، من أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة” (صححه الترمذي والألباني، والبحبوحة بضم الباء الوسط).

2- مجانبة الأشرار
فهؤلاء بعكس الذين سبقوهم، إن نسيت لم يذكروك، وإن ذكرت خذَّلوك ولم يعينوك، فهم جنود لإبليس وإن كانوا لا يعلمون، وأحسن ما يقال فيهم أنهم إن لم يضروك لم ينفعوك؛ فهم كما قال الله تعالى في المنافقين: “الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” التوبة67؛ لذلك نهانا الله تعالى عن مصاحبة مثل هؤلاء فقال:”وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً” النساء140، ونهانا تبارك وتعالى عن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ” آل عمران118، وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تـقي” (حسنه الألباني في صحيح الجامع)، وقال عليه الصلاة والسلام: “الرجل على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل” (حسنه الألباني في صحيح الجامع)، وذلك لأن خلائق السفهاء تُعدي، ولأن الصاحب ساحب، إما إلى خير وإما إلى شر.
ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للجليس الصالح والجليس السوء مثلا فقال: “إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء: كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (يعطيك) وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة” (متفق عليه)، فالحديث دليل على أن الجليس الصالح لا بد أن تنتفعه منه بقليل أو بكثير، وأن الجليس السوء لا بد أن تتضرر منه بقليل أو بكثير، فاختر لنفسك أعجب الجليسين إليك، وصاحب من شئت منهما تَحْظَ بِنَوَالِه.
قال الحافظ ابن حجر:” في الحديث النهي عن مجالسة من يتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من ينتفع بمجالسته فيهما” (الفتح4/324).
ولله ذر من قال ناصحا:
مَنْ لمَ ْ تُجَانِسْ فَاحْذَرْ أَنْ تُجَالِسَهُ *** مَا ضَرَّ بِالشَّمْعِ إِلاَّ صُحْبَةُ الفتـلِ
ولهذا تواتر عن السلف التحذير من مخالطة أهل البدع ومجالستهم، فجاء عن الحسن البصري أنه قال: “لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب”، وعن أبي قلابة قال: “لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم؛ فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه، لبسوا عليكم ما تعرفون”.

3- ذكر الموت:
ذكر الموت شفاء من الشهوات، يطفئها كما يطفئ الماء النار، والشهوات هي سبب افتتان وعدم ثبات كثير من الناس، كما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” (متفق عليه)؛ ولذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت فقال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه” (حسنه الألباني في صحيح الجامع، الهذم بالذال المعجمة: القطع بسرعة)، ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن عمر فقال: “كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل” (أخرجه البخاري)، فالموت مصيرنا جميعا، أحببنا أم كرهنا، وحالنا معه عجيب، فنحن نستبعد حُلوله، ونُسَلِّي أنفسنا عنه، مع أنه أقرب شيء إلينا، وليس بيننا وبينه إلا أدنى الأسباب، بل ربما جاء بدون سبب، كما قال أبو بكر رضي الله عنه:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ *** وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
فمن أكثر من ذكر الموت كان له نِعم الواعظ، وكان أعظم أثرا عليه من الخطب الطويلة والمواعظ البليغة.

4- ذكر الجنة والنار
فإن العبد إذا ذكر الجنة، وما أعده الله فيها لعباده الصالحين، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذكر النار وما أعده الله فيها لأهلها من ألوان العذاب وصنوف النكال، وعرف قرب الأجل ودنو الرحيل، سَهُلَ عليه صبر ساعة وإن كان قابضا على جمرة، فَيَكْتُمُ أنفاسه، ويدخل مضمار السباق وإن كان مجيئه بأَخَرَة، ليس طمعا في السبق؛ فإن من القوم من أدرك الغاية وحط رحاله في الدرجات العلى من الجنة، ولكن يطمع في القرب منهم وأن يجعل الله معهم بمَنِّه وكرمه وبحبه إياهم وسيره على طريقهم، ومن عرف ما يَطْلُب هَانَ عليه ما يَبْذُل، قال صلى الله عليه وسلم: “ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها” (حسنه الألباني في صحيح الجامع).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *