هل يعارض حديث سحر رسول الله عصمته ويشكك في نبوته؟ د. عبد الرحيم المتوكل

يقول الله تعالى: “واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به” سورة البقرة، يقول الشافعي رحمه في الرسالة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله).
إذا علمت هذا سهل عليك أن تفهم أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه لأنها منزلة عليه كما أنزل القرآن وقد جاء هذا صريحا في القرآن الكريم في سورة النجم: “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”، والمعنى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن هوى في نفسه -وحاشاه عليه الصلاة والسلام- بل كلامه وحي يوحى به إليه من رب العالمين، وبالتالي فهو معصوم بعصمة الله.
هذه مقدمة تجعلنا نفهم جيدا قوله تعالى “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” سورة الحجر، ومعنى الآية أن الرب سبحانه تكفل بحفظ الوحي المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وبما أن السنة وحي منزل فهي معصومة من الخطأ ومحفوظة بحفظ الله كما دلت عليه الآية الكريمة وهذا التقرير واضح لمن تأمل.
ولا يعكر على عصمة السنة النبوية بعض الشبهات التي تثار هنا وهناك بين الفينة والأخرى، ومن ذلك قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الصحيحين.
فقد توهم البعض أن إثبات القصة تشكيك في عصمة السنة وهذا مجرد توهم تعلق به بعض من لا خبرة له بالعلوم الشرعية ولم يجمع خيوط الموضوع من جميع النواحي، وإليكم أيها السادة سرد القصة كما في صحيح الإمام مسلم.
عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا ثم قال: يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه قال لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان. قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، ثم قال: يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رءوس الشياطين. قالت: فقلت يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: لا أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت”.
شرح غريب الحديث:
مطبوب: مسحور.
(مُشط): آلة تسريح الشعر.
(مشاقة) أو (مشاطة): ما يسقط من الشعر.
(وجف طلع نخلة ذَكَر): هو الغشاء الذي يكون على الطلع، ويطلق على الذكر والأنثى ولذا قيده بالذكر.
ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر ولكن تأثير السحر لم يلحق أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ولا أفعاله وإنما كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وهذا مثل ما يعرض للإنسان في فترة النقاهة من المرض يظن أن به قدرة على الحركة وعندما يهم بذلك لا تحتمل قدماه ذلك، وهذا لا يمس جانب التشريع المعصوم منه صلى الله عليه وسلم لأمته لأن التشريعات تؤخذ من أقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام، ولا تعارض بين ثبوت هذا التخيل وعصمة النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكى الله سبحانه في كتابه نحو هذا عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام فقال سبحانه في كتابه في سورة طه:
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى، قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ، وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ}، فقد صرحت الآيات بأن سحر أولئك السحار، قد أوقع نبي الله موسى في التخييل، حتى تغيرت أمامه الحقائق، فحسب الحبال حيات، والساكنات متحركات، وعندما أوجس في نفسه من ذلك خيفة، كانت عصمة ربه له بالوحي إليه بعدم الخوف لأنه رسول الله حقا، وعليه إلقاء ما في يمينه يعنى عصاه فإذا هي “تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى” فتأمل ما في الآيات من إثبات السحر للأنبياء مع عصمتهم من آثاره المضرة بدعوتهم.
ومعلوم أن الأنبياء كلهم معصومون فيما يبلغون عن الله، بل إن الله سبحانه ذكر في كتابه قصة آدم عليه الصلاة والسلام مع إبليس وكيف استزله للأكل من الشجرة ولا يدعي أحد أن هذا طعن في نبوة آدم عليه السلام وعصمته قال تعالى: “فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ”، فدلت الآية على أن تأثير الأرواح الشيطانية في نبي من الأنبياء لا يعني التمكن من إغوائه والطعن في نبوته وعصمته.
ويؤكد هذا قصة نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام الذي قال الله سبحانه في شأنه: “وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ” سورة ص.
وهذا كله في القرآن الذي لا يستطيع أحد أن يشكك في أنه من عند الله حقا وأنه محفوظ بحفظه، ولهذا قرر العلماء رحمهم الله أن عصمة الأنبياء لا تنافي بشريتهم لأن مجال العصمة هو التشريع للأمة والتبليغ لشرع الله، وأما ما سوى ذلك فيجري عليهم ما يجري على البشر من الراحة والتعب والجوع والعطش والصحة والمرض.
ومعلوم أن السحر مرض من الأمراض له أسبابه وله علاجه وقد شفى الله سبحانه نبيه منه كما هو بين من سياق الحديث مع أن تأثيره على النبي صلى الله عليه لم يعد التخييل، ولله در عائشة رضي الله عنها كيف عبرت بنفس تعبير القرآن في حق موسى عليه السلام، فكأني بها تريد أن ترد على شبهة قد تتسلل إلى بعض الأذهان وهي كيف يسحر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم؟! فتقول أن أثر السحر كان مجرد تخيل كما وقع لموسى عليه الصلاة والسلام، وإذا كنتم تصدقون القرآن فصدقوا ما أخبركم به.
إذا أمعنت النظر فيما ذكرت تبين لك أن حديث سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم ولا يشكك في النبوة، كما أنه لا يمثل ثغرة في السنة الصحيحة، وإنما يمثل نقطة مشرقة في حياة هذا النبي الخاتم والتي كلها إشراقات وأنوار لأنه صلى الله عليه وسلم سحر، لكنه لم يخرج عن دائرة الصواب، بل كان في أعلى درجات الاستقامة والهداية، وهذا يدل على أن السحر لم يؤثر في قواه صلى الله عليه وسلم العقلية، ولا في درجته الإيمانية، وإنما كان مؤثرا في أداء الجسم، وهذا لا علاقة له بالرسالة والوحي، والعصمة، ومع أنه أمر جسدي، فإن الرعاية الإلهية قد شملته، وتولاه الله بالحفظ، وسلمه سبحانه وشفاه، بعد أن أطلعه عز وجل على المكيدة التي صنعها له لبيد بن الأعصم في السحر، فذهب إلى حيث طوى الرجل أمشاطه، وأسباب سحره، فأبطل صلى الله عليه وسلم كل ذلك وهذا من إكرام الله له وهو أيضا علم من أعلام نبوته وصدقه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *