– إثبات صفة السمع لله تعالى (تتمة):
ونفي المعتزلة لصفة السمع إنما هو فرار من التشبيه في زعمهم، حيث اعتقدوا أن إثبات هذه الصفة لله تعالى يستلزم منه مشابهته للمخلوقين وهذا زعم باطل، فإنه كما ثبت لله جل في علاه ذات تليق به فقد ثبتت له صفات تليق به.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل صفات سائر الذوات… وإن كنت تقر بأن له ذاتا حقيقية ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره وكلامه… ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم..” .
وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد من صحيحه بقوله: باب “وكان الله سميعا بصيرا”، وأورد تحته عدة أحاديث منها ما رواه بسنده عن ابن شهاب قال: حدثني عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن جبريل عليه السلام ناداني قال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك” (حديث:7389).
قال بن بطال رحمه الله تعالى: “غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى سميع بصير عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتا ولا يسمعها ولا شك أن من سمع وأبصر أدخل في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر فصح أن كونه سميعا بصيرا يفيد قدرا زائدا على كونه عليما، وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر كما تضمن كونه عليما إنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعا بصيرا وبين كونه ذا سمع وبصر، قال: وهذا قول أهل السنة قاطبة” .
2- هل إثبات صفة السمع لله تعالى يستلزم إثبات الأذن له سبحانه؟
من القواعد المعتمدة في باب الصفات أنها توقيفية فلا مجال للرأي فيها، فلا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فكل صفة لم ترد في الكتاب أو السنة -و إن كانت صفة مدح- فإننا لا نثبتها كما لا ننفيها بل الأصل التوقف.
ومن ذلك صفة الأذن، فإنها لم ترد في كتاب ولا سنة، إذن فسبيل الرشاد أن نتوقف فلا نثبتها كما لا ننفيها.
لذا كان ما ذكره الحليمي رحمه الله تعالى في معنى السميع: “إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقات بآذانهم من غير أن يكون له أذن…” فيه نظر، لأنه نفى أن يكون لله تعالى أذن فرارا من مشابهة المخلوقات التي تسمع بآذان، لكن لا يلزم من إثبات الأذن لله تعالى تشبيهه بالمخلوقات، وإلا فقد أثبت الله تعالى لنفسه وجها وعينا ويدا وكلها صفات ثابتة للمخلوق، لكن اتحاد الأسماء لا يلزم منه اتحاد المسميات.
كذلك لا يسلم ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله تعالى حيث قال في شرحه لاسم السميع: “ويسمع بغير أصمخة وآذان كما يفعل بغير جارحة ويتكلم بغير لسان وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان ومهما نزهت السميع عن تغير يعتريه عند حدوث المسموعات وقدسته عن أن يسمع بأذن أو بآلة وأداة علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في محض التشبيه فخذ منه حذرك ودقق فيه نظرك..” .
فباب الصفات باب عظيم لا يقال فيه بمجرد الرأي أو القياس، فالأساس الأول والأخير في هذا الباب الجلل هو النقل من الكتاب أو السنة، وما ذكره الإمام أبو حامد من الصفات كالآذان واللسان لم تثبت في نص البتة فسبيل السلامة التوقف.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في قوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا” (النساء:58)، قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه وأصبعه التي تليها على عينه.. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك” .
فقد قال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى: “والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى كما يقال قبض فلان من مال فلان ويشار باليد عن معنى أنه حاز ماله، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير له سمع وبصر لا عن معنى أنه عليم، إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلوم منا، وليس في الخبر إثبات الجارحة تعالى الله علوا عن شبه المخلوقين علوا كبيرا” .
فالحق أننا نثبت لله تعالى سمعا يليق به، فهو يسمع بسمع، لكن هل يسمع بآذان؟
هذا ما لم يثبت فيه شيء عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فوجب التوقف.